للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الحمائم وما ترسل من حنين شجى، وهو لا يدرى أيضا أى منازل رحل عنها أحبابه أهى الربوع أو الضلوع. فكلاهما أطلال دارسة، ويبلغ به الخيال أن يظن أنفاسه الحارّة امتزجت بنسيم الصبا، فأحالته سمائم لافحة.

ونلتقى بخدن القاضى الفاضل ورفيقه: ابن سناء الملك أكبر شعراء مصر فى العصر، وشعره يموج بوجد لا حدود له ولا ضفاف، وجد يشقى به تارة وينعم به تارة، إذ يذوق لذة الحب المؤلمة والحلوة، حتى إذا اختلس قبلة أو ضمّة كاد يطير من الفرح طيرانا، مهما تأبّت عليه محبوبته ومهما صدت عنه ونفرت منه، بل إنه ليلقى ذلك كله بحنان لا يماثله حنان، يقول (١):

لا أجازى حبيب قلبى بجرمه ... أنا أحنى عليه من قلب أمّه

ضنّ عنى بريقه فتحيّل‍ ... ت إلى أن سرقته عند لثمه

وإلى اليوم من ثلاثين يوما ... لم تزل من فمى حلاوة طعمه

إن قلبى لصدره ورقادى ... ملك أجفانه وروحى لجسمه

يكسر الجفن بالفتور ومالى ... عمل عند كسره غير ضمّه

والأبيات تموج بالعذوبة والظرف، فكله حنان لصاحبته، حتى ليفوق حنوّه عليها حنوّ الأم.

ومازال بها حتى اقتطف منها خلسة قبلة، ومرت الأيام ولا تزال حلاوتها فى فمه، ويشعر كأن كل شئ فيه لها: قلبه وروحه، وملك أجفانها رقاده وسهده. وتصنّع فى البيت الأخير لاستخدام مصطلحى الكسر والضم عند النحاة، ومع ذلك أوقعهما فى موضعهما، فلا نحس فيهما تصنعا ولا ما يشبه التصنع، ومن قوله (٢):

نعم المشوق وأنعم المعشوق ... فالعيش كالخصر الرقيق رقيق

خصر أدير عليه معصم قبلة ... فكأن تقبيلى له تعنيق

ونعم لقد طرق الحبيب وماله ... إلا خدود العاشقين طريق

فرشوا الخدود طريقه فكأنما ... زفراتهم لقدومه تطريق (٣)

وافى وصبح جبينه متنفّس ... وأتى وجيد رقيبه مخنوق


(١) الديوان ص ٦٦٤.
(٢) الديوان ص ٥٠٢.
(٣) التطريق: تسهيل الطريق للمارة.

<<  <  ج: ص:  >  >>