للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهى لحظة من لحظات الحب الحلوة صورها ابن سناء الملك تصويرا بديعا، فقد سعد العاشق الولهان بما أنعم عليه المعشوق من لقاء، وأحس بابتهاج ما بعده ابتهاج، فقد زارته المحبوبة الفاتنة التى شغفت قلوب كثيرين، وإنهم ليفرشون طريقها بخدودهم لتطأ عليها، مرسلين زفراتهم، وكأنما يمهدون بها الطريق لها، وقد وافت بجبينها المشرق إشراق الصباح، وغصّ الرقيب بريقه حتى كأنه مخنوق. ومن طرائف غزله قوله (١):

سعدت ببدر خدّه برج عقرب ... فكذّب عندى قول كلّ منجّم

وأقسم ما وجه الصباح إذا بدا ... بأوضح منى حجّة عند لوّمى

ولا سيّما لما مررت بمنزل ... كفضلة صبر فى فؤاد متيّم

وما بان لى إلا بعود أراكة ... تعلّق فى أطرافه ضوء مبسم (٢)

وقفت به أعتاض عن لثم مبسم ... شهىّ لقلبى لثم آثاز مسم (٣)

بكيت بكلتى مقلتىّ كأننى ... متمّم ما قد فات عينى متمّم

وهو يقول إنه سعد برؤية هذا البدر وما سال على خده من عقرب الشّعر، مما جعله يكذّب قول المنجمين أن برج العقرب فى السماء إذ رآه على خد صاحبته الفاتنة. وإن فتنتها وما تدلع فى قلبه لأنصع برهان له عند لائميه، أنصع من الصباح فى وضوحه وضيائه. وقد مرّ بمنزلها الذى لا يكاد يبين، كما لا يكاد يبين الصبر فى فؤاد العاشق الولهان، وبان له بفضل عود أراك كانت تستاك به صاحبته قبل الوضوء، إذ تعلّق بأطرافه ضوء من مبسمها، واهتدى إليها وإلى منزلها على لألائه فوقف مبهوتا مشدوها ولا أمل له فى قبلة يقتطفها أو ما يشبه القبلة، وأقبل يلثم آثار منسمها أو طريقها باكيا بدموع غزار، باكيا بمقلتيه وكأنه يتمم بكاء متمّم بن نويرة على أخيه مالك وقد اشتهر بكثرة بكائه عليه، وكان أعور فمازال يبكيه حتى دمعت عينه العوراء. وعلى هذا النحو لا يزال ابن سناء الملك يتقلب بين لحظات حب مؤلمة مبكية وأخرى مفرحة مبهجة. وكان يذوب لطفا ورقة مما جعله يتغزل-كما أشرنا فى ترجمته، ببعض من فقدن بصرهن، وهو يحتال فى غزله بهن على إيراد ألوان من حسن التعليل ترفع عنهن هذا الضيم الذى نزل بهن، من مثل قوله (٤):

فتنتنى مكفوفة ناظراها ... كتبا لى من الجراح أمانا


(١) الديوان ص ٦٩٨.
(٢) مبسم: ثغر
(٣) المنسم: طرف خف البعير ويريد راحلة الجيبة.
(٤) الديوان ص ٨٤٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>