للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فهى لم تسلل الفتور حساما ... لا ولم تحمل الّلحاظ سنانا (١)

وهى بكر العينين محصنة الأج‍ ... فان ما افتضّ ميلها (٢) الأجفانا

قصرت عشقها علىّ فلم تع‍ ... شق فلانا إذ لم تعاين فلانا

لا ولم تبصر الرجال فتختا ... ر على ملتحيهم المردانا

عميت من هواى وارتحل الإن‍ ... سان من عينها وأخلى المكانا

علمت غيرتى عليها فخافت ... أن تسمّى غيرى لها إنسانا

وهو يعلن إليها فتنته بحسنها، وهى فتنة ممزوجة بغير قليل من الرضا والغبطة، إذ أمن عندها أن تصمى سهام عينيها قلبه، أو يصحبه حسام الفتور وسنان اللحاظ، ويصفها ببكارة العينين وطهارة الأجفان، إنها عذراء البصر، لم يمس ميل الكحل عينيها، وإنها لتفرده بالحب إذ لم تر ولم تبصر سواه، فهو دنياها غير مفكرة فى شيب وشبان، إذ لا تعرف الفرق بين أصحاب اللحى والمردان. وتبلغ به الرحمة والإشفاق والعطف عليها أن يقول إنها فقدت بصرها بسبب حبه، وبذلك خلا مكان إنسان العين منها، وكأنما عرفت غيرته عليها حتى من إنسان عينها، فنحّته عنها، حتى لا يكون لها إنسان سواه. وكل ذلك لطف من ابن سناء الملك ورقة ورحمة وعطف وحنان ما بعده حنان. وهو بحق يعد فى الذروة من شعراء العرب النابهين الذين يمتازون بدقة الحس ورهافة الشعور وروعة المعانى والتصاوير.

ويتفجر هذا الغزل الوجدانى البديع على كل لسان بعد ابن سناء الملك، وكان من أهم الأسباب فى ازدهاره الشعر الصوفى الذى ذاع وشاع منذ زمن الدولة الأيوبية، فإن الصوفية من أمثال ابن الكيزانى وابن الفارض أذاعوا فيه وجدا ملتاعا وكان لذلك أصداؤه الواسعة فى غزل الشعراء، فانفكوا من أصداف البديع ومن الأخيلة الجامدة المتحجرة، وأخذوا يصورون حبهم وما يذوقون فيه من الوجد والصبابة وما يثير فى قلوبهم من المشاعر والعواطف وما يصطلون فيه من العذاب والآلام: آلام الفراق وعذاب الإعراض، من ذلك قول الحسن بن شاور فى بعض غزله (٣):

قلّدت يوم البين جيد مودّعى ... دررا نظمت عقودها من أدمعى


(١) اللحاظ: مؤخر العين ممايلى الصدغ.
(٢) الميل: المكحل أو المرود وهو ما يوضع به الكحل فى العين.
(٣) فوات الوفيات ١/ ٢٣٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>