بالسهام والنبال، ويقول إن شذاريقها كشذا المسك وأريجه يعلن عنها من بعيد. ويتحدث الشعراء كثيرا عن السيوف والرماح المسلولة من العيون على الناظرين للجمال المصون، ويرسم ابن النبيه من ذلك صورة رائعة، فعيون صاحبته بما يحميها من الرماح تذود عن وجنتيها الفاتنتين كما يذود الشوك عن الورد حين تمتد يد لاجتنائه أو اقتطافه، ويقول إنه حتى حين يريد أن يقتطف بعينيه لا بشفتيه شيئا من ورد وجنتيها تقول له حذار من مرعى وخيم العواقب.
وكل هذا غزل وجدانى يموج باللهفة والظمأ واللوعة الملتهبة التى لا سبيل إلى إطفائها فى قلب المحب الولهان، وهو دائما يستعطف ويتوسل ويتضرع، ولا مجيب حتى بنظرة أو كما يقول باقتطاف نظرة إلى الوجه الفاتن. وقد تراءت لنا صور من هذا الغزل الوجدانى الصافى الملتاع عند ظافر الحداد والمهذب بن الزبير وابن سناء الملك غير أنه تكامل عند ابن النبيه فى هذه الصورة الرائعة التى تخلو من المتاع الحسى والتى يسيل فيها الشعر رقة وعذوبة وسلاسة. وما أشك فى أن الحاجرى شاعر الموصل استلهم فى غزله الوجدانى الذى تحدثت عنه فى الجزء الخامس من هذه السلسلة لتاريخ الأدب العربى هذا الغزل الوجدانى لابن النبيه نزيل دياره حين كان الحاجرى لا يزال شابا فى نحو الخامسة عشرة من عمره، وتلاه التلعفرى الموصلى الذى تحدثنا عن غزله الوجدانى الملتاع يستضئ فيه بابن النبيه أيضا، ولاحظ ذلك صاحب فوات الوفيات، فقال فى ترجمته إن قصيدة التلعفرى التى أنشد منها قطعة فى ترجمته بالكتاب المشار إليه والتى يستهلها بقوله:
أىّ دمع من الجفون أساله ... إذ أتته مع النسيم رساله
إنما نظمها معارضة ومحاكاة لقصيدة ابن النبيه:
بدر تمّ له من الشعر هاله ... من رآه من المحبين هاله (١)
فهى من نفس الوزن والروى، بل المحاكاة عند التلعفرى لابن النبيه أوسع من هذا، إذ هى محاكاة لغزله الوجدانى الرائع لا فى أساليبه السلسة السائغة فحسب، بل أيضا فى مضمونه الملئ بالأسى المبرّح والوجد الملتهب، مع الرقة والدمائة واللطف وخفة الروح. وسقطت القيثارة من يد ابن النبيه بوفاته وكانت مصر قد أنجبت البهاء زهير، وإذا هو يستخرج من قيثارته نغما رائعا لهذا الغزل الوجدانى على نحو ما سنرى عما قليل، وهو نغم يبلغ به الذروة التى كانت مأمولة لهذه الصبابة
(١) هالة الأولى: دارة القمر. وهاله الثانية: من هاله الشئ إذا أعجبه وروعه.