للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فهو يدعو للوادى من شرقيه إلى غربيه أن يظل يسقيه من الغيث هطال مدرار، ويتصور الوادى جميعه فردوسا لا يشبهه فردوس وترابه وحصباءه مسكا وذهبا خالصا، وهو لا يسلو أهله ولا ينساهم أبدا ويتمنى لو قصرت المسافة وعاد إلى موطنه ينظر ما شاهده، حتى تجف دموعه المنهلة، وتهدأ أحشاؤه الموجعة.

ويستولى الملك الصالح فى سنة ٦٣٦ على دمشق فيتحول معه إليها ويتملّى بغوطتها ورياضها، ولا يلبث الملك الصالح أن يفكر فى الاستيلاء على أملاك داود ابن عمه صاحب الكرك فى جنوبى الأردن وينزل نابلس، غير أن مؤامرت تحاك له، ويعتقل بسببها عند ابن عمه داود فى الكرك، ويظل البهاء زهير بنابلس حافظا لعهده. وتردّ إليه حريته، ويتجه إلى مصر فيستولى من أخيه الصغير العادل على مقاليد الحكم بها سنة ٦٣٧ ويولى البهاء زهير ديوان الإنشاء، والبهاء يكاد يطير فرحا برجوعه إلى موطنه وتعظم منزلته عند الملك الصالح ويصبح مستشاره الأعلى وأمين سره، وكان خيّرا نبيلا فنفع-كما يقول ابن خلكان-خلقا كثيرا بحسن وساطته عنده وجميل سفارته.

ومن حين إلى حين كان يرحل مع الملك الصالح إلى دمشق، وفى آخر رحلة لهما هناك جاءهما خبر الحملة الصليبية على دمياط بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا، وتصادف أن كان الملك الصالح مريضا، فصمّم على منازلة لويس وجيشه فى أقرب فرصة، وحمل من هناك فى محفّة حتى نزل بطناح بالقرب من المنصورة فى شهر المحرم سنة ٦٤٧ ومضى يستعدّ للقاء الصليبيين وهو يجاهد المرض جهادا عنيفا حتى شهر شعبان إذ لبّى نداء ربه. وقبيل وفاته بقليل عزل البهاء زهير من منصبه، ويذكر المؤرخون أن ذلك كان بسبب تقصيره فى الالتفات إلى إشارة كان قد كتبها الملك الصالح على كتاب كان مرسلا لابن عمه داود صاحب الكرك، مما أغضب الملك الصالح.

ونظن أنه رجع ذلك السهو إلى تقدمه فى السّنّ، فأعفاه من منصبه وأسنده إلى نائبه فخر الدين ابن لقمان. ويقال إنه حاول بعد وفاة الملك الصالح إعادته إلى منصبه، وكأنما عزّ ذلك على البهاء فلم يقبل تقلّده، وقيل: قبله فترة ثم استعفى منه. وفى ديوانه مدائح مختلفة أرسل بها إلى الناصر الأيوبى حين استولى على دمشق، وأكبر الظن أنه أرسل بها إليه انتظارا لبعض رفده، ولزم بيته نحو ثمانى سنوات عرف فيها شظف العيش بعد رغده ومرّه بعد حلوه إلى أن فارق دنياه سنة ٦٥٦ فى وباء حدث بالفسطاط والقاهرة.

ويدلّ شعر البهاء على أنه كان صاحب نفس كريمة كبيرة، ويقول ابن خلكان فى ترجمته:

«كنت أود لو اجتمعت به لما كنت أسمعه عنه فلما اجتمعت به رأيته فوق ما سمعت عنه من مكارم

<<  <  ج: ص:  >  >>