للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الأخلاق ودماثة السجايا». وما مرّ من حديثنا عنه يدل على أن حياته ظلت، حتى أعفاه الملك الصالح من منصبه وهو فى نحو السابعة والستين من عمره، حياة سهلة ليس فيها حرمان ولا شئ من بؤس، بل فيها غير قليل من النعيم، وفى شعره وصف كثير لمجالس أنس مع الرفاق والأصدقاء، وفيه ما يدل أيضا على شغفه بالطبيعة ومجاليها الفاتنة. وله مراسلات شعرية رقيقة مع ابن مطروح خدن صباه وشبابه فى قوص. وشعره يكتظ بالمرح والتفاؤل والدعوة إلى الفرحة بمتع الحياة وطرح الهموم عن عاتق الإنسان، يقول:

أيها الحامل همّا ... إن هذا لا يدوم

مثل ما تفنى المسرّا ... ت كذا تفنى الهموم

والغزل هو الموضوع الأساسى فى ديوانه، وهو غزل وجدانى من نفس المعين الذى كان يستمد منه ابن النبيه، بل ربما كان يتقدم خطوة أو خطوات نحو السهولة، مما جعل ابن خلكان يقول:

«شعره كله لطيف، وهو-كما يقال-السهل الممتنع». وليس كل ما يلاحظ عليه السهولة فحسب، فهو يتميز فيه حتى من ابن النبيه بالأوزان القصيرة والمجزوءة. وهو مثله يتغنّى بالحب وتباريحه فى تدفق وانطلاق، وقلما نجد عندهما معا رواسب تصويرية من تقليد القدماء، وما يجئ من ذلك يعرض عرضا جديدا، وأيضا ما يجئ أحيانا من جناس وغير جناس من المحسنات البديعية يجئ فى خفة ورشاقة. فالشعر-وخاصة الغزل-ليس محسنات ولا تصاوير محفوظة مما يتردد على الألسنة، وإنما هو مشاعر وانفعالات وعواطف. وقد يكون ذلك غريبا على أذواق الباحثين الذين طالما رددوا أنه لم يبق عند الشعراء منذ أيام الدولة الايوبية سوى الأخيلة والتصاوير المتجمدة، وسوى المحسنات البديعية التى استحالت إلى أصداف ينقصها البريق واللمعان.

وينبغى أن لا نجعل ذلك خاصة فريدة من خصائص البهاء زهير وحده، فهذا الغزل الوجدانى لم يكن خاصا بالبهاء زهير، فقد كان يشركه فيه-كما أسلفنا-ابن النبيه وأيضا ابن سناء الملك، وله مقدمات قديمة نجدها عند المهذب بن الزبير وظافر الحداد. ولا ريب فى أنه لطبيعة مصر السهلة وطبيعة نيلها العذب السّلس أثر كبير فى ذلك، فعلى نحو ما يمتد الوادى فى مصر سهلا لا نتوء فيه، كذلك شعره وشعر أصحابه تمتد لغته سهلة دون أى صعوبات، وعلى نحو ما يجرى النيل مترقرقا متدفقا كذلك شعره وشعر أصحابه يسيل عذبا سائغا شرابه. وكما أن الوادى ينطوى على السهولة كذلك النفس المصرية نفس سهلة لطيفة لا خشونة فيها، نفس

<<  <  ج: ص:  >  >>