للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بتنّيس، وهى مدينة كانت بقرب بور سعيد الحالية، وتمتد فى بحيرة المنزلة، واشتهر أهلها (١) بصناعة النسيج والتفوق فى صنع الثياب الشفافة والملونة، ويذكر المؤرخون والجغرافيون أنها كانت تكتظ بالجنان والكروم والفواكه والأشجار والأزهار والطيور من كل لون، وأكثر أغذية أهلها السمك، وهم مياسير أصحاب ثراء، وأكثرهم حاكة، وهم يحبون النظافة والدماثة والغناء واللذة وأكثرهم يبيتون سكارى. ويبالغ الأسلاف فى وصف ما كان بهذه المدينة أو الجزيرة التى اندثرت من مشاهد طبيعية ومن جنات ورياض. وفيها ولد ابن وكيع كما يقول ابن خلكان ولا نعرف تاريخ مولده، أما وفاته فمعروف تاريخها وهو سنة ٣٩٣ وكذلك مكانها وهو مسقط رأسه تنّيس. ولا نعرف الأسباب التى دفعت أباه إلى اتخاذ تنيس دار مقام له ولأسرته، وقد نشأ فيها الشاعر وتثقف. ويبدو أنه طلب المزيد من الثقافة والتعرف على أدباء القاهرة فرحل إليها، وكانت شاعريته تفتحت فلفت إليه الأنظار، ولا ندرى متى كان ذلك تماما، غير أن من المؤكد وجوده فى القاهرة حين نزلها المتنبى سنة ٣٤٦ ويبدو أن صلة انعقدت بينه وبين ابن حنزابة وزير كافور، وكانت العلاقات قد ساءت بينه وبين المتنبى، حينئذ رأينا ابن وكيع يؤلف كتابا فى سرقات المتنبى سماه المنصف إرضاء للوزير، ويقول ابن رشيق فى العمدة: «سماه كتاب المنصف، مثل ما سمّى اللديغ سليما، وما أبعده عن الإنصاف». ولم يكن المتنبى من ذوق ابن وكيع، وبون بعيد بين ذوقيهما، فالمتنبى شاعر جاد منتهى الجد، لا يعرف اللهو ولا الخمر ولا المجون، وابن وكيع شاعر ماجن منتهى المجون، فاندفع يريد أن يسقط المتنبى من عليائه وأنّى له ذلك؟ ! ويبدو أنه كان ثريا، فأعانه ثراؤه على انغماسه فى المجون، ويدل على هذا الثراء أننا لا نجد رواة شعره يذكرون له قصائد فى ابن حنزابة ولا فى الخلفاء الفاطميين وقد عاصر منهم المعز والعزيز والحاكم، فحسبه دائما كأس وطاس، حتى ليؤثرهما على تولى منصب الخلافة الرفيع يقول:

وإن أتوك فقالوا كن خليفتنا ... فقل لهم إننى عن ذاك مشغول

وارض الخمول فلا يحظى بلذّته ... إلا امرؤ خامل فى الناس مجهول

واسفك دم القهوة الصّهباء تحى به ... روحى فإن دم الصّهباء مطلول (٢)

فهو يؤثر حياة الخمول والمجون على حياة العزة حتى لو كانت الخلافة، ويبدو أنه تمثل كل


(١) انظر فيهم نقول المقريزى عنهم فى كتابه الخطط ١/ ٣٣١ وما بعدها.
(٢) مطلول: مهدر لا يطلب ثأره.

<<  <  ج: ص:  >  >>