للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ما فى ديوان أبى نواس من مجون حتى الجانب السيئ عنده جانب الغلمان، إذ نراه يداعب غلاما نصرانيا فى مربعة مزدوجة طويلة أشرنا إليها فى الفصل الماضى، شكا له فيها من حبه وعذابه فيه، ومضى يتوعده تظرفا إن لجّ فى هجره أن يشكوه إلى القساوسة والرهبان والأسقف والمطران والبطرك، ويقول له كيف تحل قتل الروح وهو ما لم يأت به المسيح ولا أخبر به يوحنا ومتى ولوقا ومرقص.

وكل ذلك على سبيل الدعابة، ونظن ظنا أنه لم يكن متورطا فى هذا الإثم، وكل ما فى الأمر أنه هو ومن نظموا فيه بعده على مر السنين. إنما كانوا يحاكون فيه مجان بغداد تظرفا ودعابة على نحو ما يتضح فى مربعة ابن وكيع المزدوجة. وربما كان من أسباب ذلك كثرة النصارى فى تنيس كما يقول المقريزى وكثرة حاناتهم فيها ومن بها من السقاة والغلمان. ومن المؤكد أنه كان لا يطيل مكثه فى القاهرة فهو دائم الرجوع إلى بلدته ناعما بثرائه فيها وبمشاهدها الطبيعية. وله بجانب هذه المزدوجة المربعة مزدوجة ثانية فى وصف فصول السنة يبدؤها بوصف فصل الصيف وحره وغباره وما يجلب لشارب الخمر من الصداع، ويتلوه بفصل الخريف وأهويته واختلاف برده وحرّه، ويتبعه بفصل الشتاء وما فيه من برد وأمطار وزكام وحاجة مدمنى الخمر فيه إلى الدفء وإيقاد النار ثم يفيض فى بيان محاسن الربيع المنتشرة فى كل عناصر الطبيعة من شمس وقمر وطيور ورياض وأزهار وثمار، مما ينعم به شارب الخمر ويجد فيه هناءه. ونقتطف الأبيات التالية من خمرية له جمع فيها بين وصف الخمر ووصف الطبيعة فى الربيع وصف مشغوف بها مفتون، يقول:

أبدى لنا فصل الرّبيع منظرا ... بمثله تفتن ألباب البشر

فالأرض فى زىّ عروس فوقها ... من أدمع القطر نثار من درر (١)

أما ترى الورد كخدّى كاعب ... راودها، فامتنعت منه بشر

كأنما الخمر عليه نفضت ... صباغها أو هى منه تعتصر (٢)

أخجله النّرجس إذ جادله ... فاحمرّ من فرط حياء وخفر

وانظر إلى الأطيار فى أرجائه ... إذا دعا الثاكل فيها وصفر (٣)

كأنها-تصفر فى رياضها- ... سرب قيان فوق بسط من حبر (٤)


(١) النثار: ما ينثر على العروس ليلة الزفاف من الدراهم الفضية
(٢) صباغها: لونها.
(٣) الثاكل: من فقدت ابنا لها.
(٤) حبر: جمع حبرة، وهى القطعة من نسيج الحرير.

<<  <  ج: ص:  >  >>