للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والنّسك فى عصر الصّبا كأنه ... من قبحه خلع عذار فى الكبر (١)

فاشرب عقارا لو أصابت حجرا ... لطار من خفّته ذاك الحجر

كأنما الأوطار فيها جمّعت ... فليس فى العيش لجافيها وطر (٢)

وإنما أطلنا فى اقتطاف هذه الأبيات لندل على براعة ابن وكيع فى تصوير الطبيعة تصوير الصب المفتون بها، فهى عروس جميلة موشاة بألوان زاهية، ورأتها السماء فعشقتها وأخذت تبكى بأجفان المطر، وما أروع الورد، إنه كوجنتى فتاة راودها ولهان بها، فانثنت حياء وتضرجت وجنتاها خفرا. ويعجب ابن وكيع أشد العجب هل الخمر نفضت لونها القانى على الورد أو هى معصورة منه ومستخرجة، أو لعل النرجس جاد له فاحمرّ لقوة حجته خجلا. وفى أرجاء هذا الروض البديع يغنى الطير غناء شجيا مؤثرا، وكأنه أسراب قيان تغنى فوق بسط من سندس وحرير. ويدعو إلى اللهو واللذة فى زمن الصبا والشباب، ويزعم أن النسك وهجران المتاع فى بواكير الحياة ذميم مثل خلع العذار والمجون فى الكبر. وكأنه نظم هذه الخمرية فى شبابه.

ويزعم ما زعمه أبو نواس قبله من أن الخمر لو مست حجرا لمسّه السرور، وأنها مجمع الأوطار والمنى. ودائما يقول إنه عاكف على شرب الخمر وسط مباهج الطبيعة، غير مرعو ولا مزدجر على شاكلة قوله:

جانبت بعدك عفّتى ووقارى ... وخلعت فى طرق المجون عذارى

خوّفتنى بالنار جهدك دائبا ... ولججت فى الإرهاب والإنذار

خوفى كخوفك غير أنى واثق ... بجميل عفو الواحد القهار

انظر إلى زهر الربيع وما جلت ... فيه عليك طرائف الأنوار

ناحت لنا الأطيار فيه فأرهجت ... عرس السرور ومأتم الأطيار (٣)

فاشرب معتّقة كأن نسيمها ... مسك تضوّعه يد العطّار (٤)

مع مسمع حلفت له أوتاره ... أن لا تنافر رنّة المزمار

فطن يحرّك كلّ عضو ساكن ... تحريكه لسواكن الأوتار

وهو يعلن لصاحبه أنه انغمس فى المجون غير مصغ لتخويفه له من عذاب النار، إذ يأمل فى


(١) خلع العذار: كتابة عن التهتك والإغراق فى المجنون.
(٢) الوطر: الأمنية.
(٣) أرهجت: أتارت.
(٤) تضوعه: تذكى رائحته وتنشرها.

<<  <  ج: ص:  >  >>