للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فخرج المستنصر فى ساعته بروايا الخمر تزجى بنغمات حداة الملاهى وتساق، حتى أناخ بعين شمس (بجوار القاهرة) فى كبكبة من الفسّاق فأقام بها سوق الفسوق على ساق، يقول: «وفى ذلك العام أخذه الله وأخذ أهل مصر بالسنين (١)» وكأن ذلك كان فى أول عام من أعوام المجاعة المشهورة لعهد المستنصر التى بدأت سنة ٤٤٢ وظلت سبع سنوات، حتى هلك الحرث والنسل.

والخبر يدل على أن الشريف العقيلى عاش على الأقل حتى هذه السنة، ويستدرك صاحب المغرب على من ذكر له أنه كان فى المائة الرابعة قائلا: «وقفت فى الخريدة (للعماد الأصبهانى» على ترجمته فدلّ على أنه متأخر العصر عن المائة الرابعة». ولعل فى ذلك كله ما يشهد بأنه عاش مطالع شبابه فى القرن الرابع، وامتدت به الحياة فعاش دهرا فى القرن الخامس.

وهو من أهل الفسطاط، وكان ثريا ثراء مفرطا حتى قال ابن سعيد: كان له بها متنزهات، وهو فى ذلك مثل تميم بن المعز، فهما جميعا من سكانها وأصحاب البساتين والقصور بها، غير أن تميما شغل فى ديوانه بمديح أبيه وأخيه العزيز، أما العقيلى فكما يقول ابن سعيد «لم يكن يشتغل بخدمة سلطان ولا مدح أحد» ويشهد بذلك ديوانه فليس فيه مديح لخليفة من الخلفاء الفاطميين، فيه فقط بعض إخوانيات قليلة، وكذلك بعض فخر وهجاء، ولا نبالغ إذا قلنا إنه استغرقه شعر الطبيعة والخمر والحب وكأنه امتداد لابن وكيع التنيسى. . ينظم أشعاره لنفسه ويتغنى لها بالطبيعة ومفاتنها مازجا بينها وبين الخمر فى نشوة وفرح ومسرة. ونشعر كأنما ينتفض أمامها انتفاضا يعم كيانه كله، وهو يشاهد جداولها ومياهها ورياضها وأشجارها وأزهارها وبركها، حتى لتتحول أمامه معبدا ما يزال يقدم إليه تراتيله مصحوبة ببخور الخمر وشذاها، وكأن حياته وعبادته إنما تأتلف من الطبيعة والخمر وكثوسهما المترعة، وهو يدعو دائما إلى احتساء هذه الكئوس، وكأنه يعب من الطبيعة ما يعب من فتنها، ثم يعب من الخمر ما يعب من دنانها، مع القدرة البارعة على التصوير والتحول بالمناظر الواسعة فى الطبيعة إلى مناظر مركزة، كالكّوة تتجمع فيها الأشعة فتتحول إلى ما يشبه قوس قزح رائع بديع، يقول داعيا إلى المتاع بجمال الطبيعة وشرب الخمر العتيقة:

الغيم ممدود السّرادق ... والزّهر مفروش النّمارق (٢)

والقاش قد نقشت لنا ... منه المجالس والمرافق


(١) خطط المقريزى ٢/ ٥٨٣. والسنين: الجدب.
(٢) النمارق: الوسائد.

<<  <  ج: ص:  >  >>