للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهو يدعو إلى القناعة والاكتفاء بالقليل وعدم التطلع إلى منّى عريضة يكون فيها حتف صاحبها، ويقول لا بد من القصد والاعتدال لتظل للإنسان منّته وقوته، أما إذا أفرط وتجاوز الاعتدال والقصد فإنه لا شك صائر إلى الهلاك. وإذا تركنا الفقهاء إلى الشعراء وجدناهم يرددون بعض أشعار زاهدة وبعض مواعظ، واتخذوا-كما أسلفنا-من زوال الدولة الطولونية عبرة كبرى للدهر ونكباته، وأخذت العظة وما يتصل بها من شعر الزهد تتكاثر على ألسنة الشعراء، ولتميم بن المعز قصيدة فى القرافة ومقابرها وما تبعث فى النفس من خشية الله، وفيها يتجه إلى ربه قائلا أو مناجيا (١):

رجوتك يا ربّ لا أننى ... أطعتك طوع أولى الانتهاء

ولكننى مؤمن موقن ... بأنك ربّ الورى والسّماء

وأنك أهل لحسن الظنون ... وأنك أهل لحسن الرجاء

فهو يرجو الله ويعبده لا خشية عقابه ولا خوف ناره، ولكنه يعبده لأنه أهل لعبادته، فهو رب الكون، رب الأرض والسماء، وهو يرجوه للرجاء لا لشئ وراءه من مآرب الحياة أو مآرب الآخرة. فشئ من ذلك لا يعلق بنفسه، وإنما يعلق بها اليقين والإيمان بأنه الرب الأعلى الخليق بكل عبادة وكل رجاء.

ومن يتصفح ديوان الشريف العقيلى شاعر الطبيعة والخمر يجده يختم كل قافية من قوافيه المرتبة على الحروف الهجائية بأبيات واعظة، كأنما يكفر بها عما نظمه من مجون فى نفس القافية، كقوله فى قافية الباء (٢)

أيها التائه الذى ... ضلّ عما يراد به

إنّ للعرض وقفة ... أمرها غير مشتبه

فانتبه قبل أن ترى ... مذنبا غير منتبه

ووعظيات الشريف ليس فيها روح، لسبب طبيعى وهو أنه لم يكن شاعر وعظ وزهد، وإنما كان شاعر خمر وطبيعة، ومع ذلك فأغلب الظن أنه هو الذى أوحى لشعراء الموشحات الأندلسية فى الحقب المتأخرة بفكرة الموشحات المكفرة لموشحاتهم الماجنة.


(١) ديوان تميم ص ٢٧
(٢) ديوان الشريف العقيلى ص ٧٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>