بالسنة والفقه والشريعة وبالفلسفة وعلوم الأوائل، غير أنه صاحب مقالة خاصة تشبة مقالة الكرامية فى خراسان. ويقول المقدسى الذى زار مصر فى أواخر القرن الرابع الهجرى إنه كان لهم محلة بالفسطاط، ومن الممكن أن تكون هذه المحلة ظلت حتى عصر ابن الكيزانى، وهو بذلك كان كراميا صوفيا، أو صوفيا على مذهب الكرامية القائلين بالتشبيه على الذات العلية للعباد، وهو تشبيه كان يقترن بالتنزيه، وتبدو الفكرة معقدة ولكن من الممكن تصورها، فأنت إذ تشاهد كائنا جميلا ترى فيه خالقك، مع تنزيهه عن أن يكون هو نفس الكائن الجميل. وليست هذه الفكرة كل ما يميز الكرامية، فقد كانوا يعتقدون-كما اعتقد الكيزانية-فكرة القدم فى أفعال العباد لا فى أفعال الله وحدها، وقد أنكر العماد ذلك على ابن الكيزانى. وهو والكرامية معه إنما يريدون قدمها فى العلم الإلهى، ومادام العلم الإلهى قديما فهى قديمة مثله. ومر بنا آنفا أن العماد قال إنه كانت تتبعه بمصر لعهده فى النصف الثانى من القرن السادس الهجرى فرقة كانت تعتنق نحلته، ويقول القفطى المتوفى سنة ٦٤٦:«لابن الكيزانى بمصر وسواحل الشام فرق تنتمى إليه فى المعتقد وأكثرهم بحوف مصر» ويقول ابن خلكان المتوفى سنة ٦٨١: «بمصر طائفة ينسبون إلى ابن الكيزانى ويعتقدون مقالته». وفى ذلك ما يدل على أن منزعه الصوفى ظل معروفا بمصر وظل له أتباع طوال القرن السابع الهجرى على الأقل. ويبدو أنه كان هناك من يعارضه فى حياته وبعد مماته، فقد ذكروا أن الفقيه نجم الدين الخبوشانى نبش قبره فى عهد صلاح الدين وأخرج منه عظامه، وقال:«لا تتفق مجاورة زنديق إلى صدّيق» ويقصد بالصديق الشافعى. وقد نقله إلى سفح المقطم، يقول ابن خلكان:«وقبره مشهور هناك يزار، وزرته مرارا، رحمه الله» ويقول ابن تغرى بردى: «لا يلتفت لقول الخبوشانى فيه لأنهما أهل عصر واحد، وتهور الخبوشانى معروف». وتجمع كتب التراجم على أنه كان ورعا زاهدا، بل متصوفا متقشفا، وقد أنشد له العماد أكثر من ثلاثمائة بيت فى الحب الالهى، تسيل عذوبة ورشاقة وخفة من مثل قوله:
تلذّ لى فى هوى ليلى معاتبتى ... لأنّ فى ذكرها بردا على كبدى
وأشتهى سقمى أن لا يفارقنى ... لأنها أودعته باطن الجسد
وليس فى النوم لى ما عشت من أرب ... لأنها أوقفت جفنى على السّهد
ولو تمادت على الهجران راضية ... بالهجر لم أشك ما ألقى إلى أحد
اللوم أشبه بى منها وإن ظلمت ... أنا الذى سقت حتفى فى الهوى بيدى