ولو أننا لم نعرف قائل هذا الشعر وأنه من الصوفية لظنناه شاعرا عذريا، فهو يشكو الصد والهجر ويرمز عن الذات الإلهية بليلى، ويتمادى فى العتاب، معلنا سقمه وسهده، بل لقد عرض نفسه للموت والهلاك. وابن الكيزانى مثله مثل شعراء الحب الإلهى جميعا فقد رفعوا كل الحواجز بينهم وبين أصحاب الغزل العذرى، معبرين بما فى غزلهم من حسية واضحة عن رموز ومعان صوفية، حتى لنرى ابن الكيزانى يقول:
أتزعم ليلى أننى لا أحبّها ... وأنّى-لما ألقاه-غير حمول
فلا ووقوفى بين ألوية الهوى ... وعصيان قلبى للهوى وعذولى
لو انتظمتنى أسهم الهجر كلّها ... لكنت على الأيام غير ملول
ولست أبالى إذ تعلقت حبّها ... أفاضت دموعى أم أضرّ نحولى
وما عبثى بالنوم إلا تعلّل ... عسى الطيف منها أن يكون رسولى
وهل من فارق بين هذه الأبيات وأبيات الحب العذرى؟ إنه ليذكر وقوفه بمعاهد الهوى وعصيانه للعذول أو العواذل وصبره على الهجران الأليم وما يعانى فيه من البكاء والنحيب والسقم والنحول، ويأمل فى طيف يزوره فى الحلم ليلا، ولكن لنحذر هذا الفهم الظاهرى للأبيات فابن الكيزانى إنما يتخذ ذلك كله رموزا عن معانى حبه وهيامه بالذات العلية، وهو هيام لا نهائى غير محدود بحس ولا ما يشبه الحس، هيام كله لوعة ووجد، وجد سماوى علوى يندلع شرره فى كل جسمه وجوارحه وحشاه وهو صابر لا يتألم ولا يشكو، بل يجد لذة لا يبلغها وصف فى ألمه، حتى ليبذل دمه فى سبيل حبه طائعا مختارا، فهو النور الذى يضئ فى جنبات قلبه وفؤاده، وهو الخمر الروحانية التى سرت فى شرايينه، فلم يعد يملك إزاءها حولا ولا قوة، يقول:
جر كيف شئت فلست أول عاشق ... كأس المحبّة فى محبته سقى
إنه لم يعد فى حال صحو بل أصبح فى حال سكر بالعشق الإلهى الذى لا حدود ولا ضفاف له، عشق ما إن يأمل فيه بلقاء محبوبه، حتى يبتعد عنه، تاركا له الحسرات والدموع، لقد كان شهوده قاب قوسين أو أدنى، وسرعان ما طار الحلم وولى الأمل، وينادى ابن الكيزانى:
يا حادى العيس اصطبر ساعة ... فمهجتى سارت مع الرّكب
لا تحد بالتفريق عن عاجل ... رفقا بقلب الهائم الصّبّ