وهو يعبر عن ضياع الأمل فى لقاء المحبوب بالرحلة ولوعاتها الممضة فى نفوس العشاق تعبيرا رمزيا عن آلامه وأوصابه وأوجاعه النفسية، فلم يعد يستطيع اللحاق بمحبوبه فضلا عن مشاهدته. وعلى نحو ما يعبر عن ذلك تعبيرا حسيا بالرحلة كذلك يعبر عنه-كما عبر المحبون العذريون طويلا-ببكاء الديار والوقوف على الأطلال الدارسة أو العافية، بمثل قوله:
بربّكما عرّجا ساعة ... ننوح على الطّلل الدارس
ففيض الدموع على رسمه ... يترجم عن حرق البائس
ودائما يتعلق ابن الكيزانى بخيط من الأمل فى مشاهدة محبوبه، ونوره يتألق له ولا يراه، ويبحث عنه بين الأطلال، ويسأل عنه العيس، وهى ملحة فى المسير، لتلتفت إليه، وهو هائم على وجهه غارق فى دموعه، ونار الحب تتقد فى أحشائه، يقول:
يا من يتيه على الزمان بحسنه ... اعطف على الصّبّ المشوق التائه
أضحى يخاف على احتراق فؤاده ... أسفا لأنك منه فى سودائه
ودائما تلقانا عند ابن الكيزانى هذه اللوعة ونارها التى توشك أن تحرق والتى ما يزال يذوقها ويصطلى بها مالكة عليه قلبه مستأثرة منه بكل شئ، إنه ليس حبا فقط، بل هو حب ومحنة أو هو سعادة وعذاب، وهو راض بذلك كل الرضا، حتى لا يطلب لحبّه دواء ولا شفاء، يقول:
اصرفوا عنى طبيبى ... ودعونى وحبيبى
علّلوا قلبى بذكرا ... هـ فقد زاد لهيبى
طاب هتكى فى هواه ... بين واش ورقيب
لا أبالى بفوات النّف ... س مادام نصيبى
ليس من لام وإن أط ... نب فيه بمصيب
جسدى راض بسقمى ... وجفونى بنحيبى
إن الداء هو نفس الدواء وإن العلة هى نفس الشفاء، وهو لا يفكر فى برء من علة أو داء، لأنهما سعادته الغامرة، وحقّا إنهما يثيران حريقا فى فؤاده، غير أن ما يشربه معهما من رحيق المحبة الربانية المصفى ينسيه الحريق وناره المتلظية التى لا تنطفئ فى سويداء فؤاده أبدا.