بوحدة الوجود التى كان يؤمن بها غلاة الصوفية من أمثال ابن العربى معاصره، فهو إنما يريد أن يقول إن نور الله منبثّ فى الكون بجميع كائناته وعناصره، متجلّ فى كل مناظره ومشاهده، وذلك هو سر وجده وهيامه وولهه بربه، يريد أن يشرق عليه ضياء جماله. ويظل يحلم بشهوده حلما متصلا مجاهدا فى سبيل ذلك محتملا من العذاب ما يطاق وما لا يطاق، متغنيا بالجمال الربانى وما يصلّى فيه من هجر، هاتفا من فؤاده:
ته دلالا فأنت أهل لذاكا ... وتحكّم فالحسن قد أعطاكا
وتلافى إن كان فيه ائتلافى ... بك عجّل به جعلت فداكا
فقت أهل الجمال حسنا وحسنى ... فبهم فاقة إلى معناكا
وهو يضيف إلى الذات العلية التحكم والدلال على طريقة أصحاب الحب العذرى، ولا يلبث أريج الحب الصوفى أن يعبق فى البيت الثانى، فهو يطلب أن يتلف فى حبه مادام فى تلفه ائتلافا بربه المحبوب، وهو لا يريد التلف الحقيقى إنما يريد الفناء المطلق فى ربه وجماله الذى يفوق كل جمال، بل إن كل جميل ليفتقر إلى جماله المتجلى فى الكون بنوره. وعلى نحو اتخاذ ابن الفارض للغزل العذرى رمزا لحبه الصوفى نراه يتخذ الخمر ونشوتها رمزا لهذا الحب، ولا خمر ولا كئوس ولا دنان ولا سقاة، وإنما هو جمال الذات الإلهية الذى شغف به حتى ليظن كأنما نهل من شراب قدسى مسكر، فهو سكران دائما منتش غائب عن وجوده. ومن قوله فى ذلك من قصيدة بديعة:
شربنا على ذكر الحبيب مدامة ... سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم
لها البدر كأس وهى شمس يديرها ... هلال وكم يبدو-إذا مزجت-نجم
وإن خطرت يوما على خاطر امرئ ... أقامت به الأفراح وارتحل الهمّ
ولو نضحوا منها ثرى قبر ميّت ... لعادت إليه الروح وانتعش الجسم
وهو يقول إن سكره بتلك المدامة أو الخمر قديم أقدم من الوجود، وهو يشير إلى فكرة الحقيقة المحمدية التى يذهب المتصوفة إلى أنها تسبق نشأة الكون، وأن أضواء مازالت تفيض من تلك الحقيقة فى نفوس الأنبياء ونفس الرسول صلّى الله عليه وسلم ونفوس المتصوفة من بعده حتى تجلت فى ابن الفارض، ومن هنا يقول إن سكره بها ونشوته يسبقان الخليقة. ويقول إنها تجلب الفرح وتطرد