الهم، وتحيى الروح لا مجازا بل حقيقة، فلو صبوها على قبر ميت لعادت إليه الروح ودبت فيه الحياة. ويمضى فيقول: إنها صفاء ولا ماء، ولطف ولا هواء، ونور ولا نار، وروح ولا جسم.
خمر ربانية لا تشوبها أى شائبة مادية، خمر ينتشى بها ابن الفارض وأمثاله فيغيبون عن وجودهم غيبة كلها متاع وكلها نعيم لا حدود له. وديوانه كله من هذا الطراز انتشاء وسكر وحب ووجد ووله والنياع، وتطول إحدى قصائده حتى تبلغ سبعمائه وستين بيتا أو تزيد، وهى تائية وتسمى التائية الكبرى لأن له بجانبها تائية صغرى، وهو فيها يصور معراجه القدسى بمكة وفتوحه التى هبطت عليه هناك وإنمحاءه حينئذ فى الحقيقتين: الإلهية والمحمدية، حتى ليتكلم فى بعض أجزاء القصيدة باسمهما، وهو يستهلها ببيان شربه من كأس المحبة الربانية ونشوته بها وما تجشمه فى معراجه من أهوال وخطوب ومحن، وكلها كما يقول منح من ربه وعطايا اجتازها فى معراجه، خالصا إلى الانمحاء والفناء فى الذات العلية حتى ليقول:
ولم تهونى ما لم تكن فىّ فانيا ... ولم تفن ما لم تجتلب فيك صورتى
كلانا مصلّ واحد ساجد إلى ... حقيقته بالجمع فى كلّ سجدة
وما كان لى صلّى سواى ولم تكن ... صلاتى لغيرى فى أدا كلّ ركعة
وكأنه يشعر فى البيت الأول أنه لا يزال دون الحب الإلهى لا تصاله بل لا تصافه بالصفات البشرية. ويقول فى البيت الثانى إنها ينبغى أن تمحى فيه حتى يفنى فى الذات الربانية وتتجلّى فيه الصورة الإلهية، وما يلبث أن يقول فى البيت الثالث إن حواسه تعطلت وتعطلت فيه كل إرادة وشعور، حتى فنى فناء مطلقا فى ربه، متخطيا مرتبة الصحو إلى مرتبة الشهود أو كما يسميها الجمع، وكأنما يصلى لنفسه أو لربه متجليا فيه، يقول:
وطاح وجودى فى شهودى وبنت عن ... وجود شهودى ماحيا غير مثبت
وفى الصّحو بعد المحو لم أك غيرها ... وذاتى بذاتى إذ تجلّت تجلّت
فهو قد انمحى وفنى فناء كليا فى الذات العلية، وبلغ من هذا الانمحاء والفناء أعلى مراتبه، إذ لا يعتريه فى حال المحو والغيبة مع الشهود للنور الربانى، بل أيضا يعتريه فى حال الصحو، فهو دائما ممحوّ فان فى الذات الإلهية. وهو دائما يعلن أنه متمسك أشد التمسك بالكتاب وأداء الفرائض