للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الشعب المصرى دائما بالشعر العربى صلة لا تنقطع، إذ دائما نرى شعراء من طبقة العامة الكادحة يرقون فى الشعر إلى درجة عالية مثل ظافر الحداد فى الحقبة الفاطمية، وكثير من معاصرى الجزار كانوا مثله من أبناء عامة الشعب نذكر منهم صديقه الوراق، وكان ورّاقا يبيع الكتب، وكذلك صديقه الحمامى، وكان له حمّام يقوم عليه، ومثل مجاهد الخياط بالفسطاط، وله فيه بيت مشهور لزمنهما دار على الألسنة إذ يقول:

وليس يرجوه غير كلب ... وليس يخشاه غير تيس

وردّ عليه الجزار غير غاضب بل كأنما يريد استمرارا فى الدعابة:

يرجّينا بنو كلب ... ويخشانا بنو عجل

ويبد أنه كان يعود فى بواكير حياته إلى القصابة والجزارة مما جعل صديقا له يسمى شرف الدين يعاتبه ويكثر من عتابه ولومه لتركه الأدب إلى حرفة الجزارة فقال:

كيف لا أشكر الجزارة ما عش‍ ... ت حفاظا وأرفض الآدابا

وبها أضحت الكلاب ترجّي‍ ... نى وبالشعر كنت أرجو الكلابا

ولا بد أن أزمة كرامة مرت به، فانسحب فترة إلى دكاكين أهله، ولكن سرعان ما عاد إلى الأدب وإلى الكرام من ممدوحيه وأصدقائه وزملائه الكثيرين.

وربما كان أهم ما يتصف به الجزار ميل متأصل فى نفسه إلى الفكاهة والدعابة، مما جعله يشبّة بابن مكنسة وأبى الشمقمق العباسى فى الشكوى من بؤسه وفقره مداعبا متفكّها بمثل قوله:

لى من الشمس خلعه صفراء ... لا أبالى إذا أتانى الشّتاء

بيتى الأرض والفضاء به سو ... ر مدار وسقف بيتى السماء

لو ترانى فى الشمس والبرد قد أن‍ ... حل جسمى لقلت إنى هباء

كلما قلت فى غد أدرك السّؤ ... ل أتانى غد بما لا أشاء

فحتى الثياب لا يجدها، وبيته الأرض وسقفه السماء، وقد أنحله البرد حتى صار شبحا لا يكاد يرى، وكل يوم يأمل ويرجو ويخيب الأمل والرجاء، إذ لا ينال شيئا من دنياه سوى اليأس والشقاء، ويعود إلى وصف داره قائلا:

<<  <  ج: ص:  >  >>