بيبرس، إذ يصبح رئيسا لكتاب الدّست، ثم رئيسا لديوان الإنشاء، وتظل له هذه الوظيفة فى عهد السلطان قلاوون وابنه الأشرف خليل حتى يلبى نداء ربه سنة ٦٩٢. وعنه كانت تصدر العهود والسجلات والتقاليد والمنشورات والتوقيعات نحو أربعين عاما، مما جعله يضع مصطلحات ديوان الإنشاء لزمنه وبقية زمن المماليك، وكان ابنه فتح الدين على غراره مهارة بيانية، ورقى إلى وظيفة كاتب السر لعهد قلاوون وابنه الأشرف خليل. وهى أكبر وظيفة فى الدولة حينئذ، وسبق أباه إلى رضوان ربه بعام فحزن عليه حزنا شديدا.
وقد أشاد بمحيى الدين وبلاغته معاصروه إشادات رائعة، من ذلك قول النويرى فى نهاية الارب:«كان محيى الدين أجلّ كتاب العصر، وفضلاء المصر، وأكابر أعيان الدّول، والذى افتخر بوجوده أبناء عصره على الأول، له من النظم الفائق ما راق صناعة وحسنا، ومن النثر الرائق مافاق بلاغة ومعنى، فقصائده مدونة مشهورة، ورسائله بأيدى الفضلاء ودفاترهم مسطورة، وكلامه كاد يكون لأهل هذه الصناعة وعليهم حجة، وطريقه فى البلاغة أسهل طريق وفى الفصاحة أوضح محجّة» ويقول ابن شاكر فى كتابه الفوات عنه: «الكاتب الناظم الناثر شيخ أهل الترسل ومن سلك الطريقة الفاضلية فى إنشائه». وجمع بعض رسائل القاضى الفاضل فى كتاب سماه:«الدر النظيم من ترسل عبد الرحيم».
وكان يستخدم فى كتاباته السجع، وكثيرا ما يطيل السجعة الثانية ليضمّنها ما يريد من المحسنات البديعية، وفى مقدمتها التصاوير والجناس والطباق، وكذلك ما يريد من الاقتباسات القرآنية ومن حلّ بعض الأشعار ونثرها، مع حسن الألفاظ وعذوبة الكلم. وكان يرافق الظاهر بيبرس وقلاوون والأشرف خليل فى غزواتهم، ويرسل بوصفها لملك اليمن وغيره من أصحاب السلطان وللوزراء فى مصر. ومن رسائله المهمة رسالته إلى الوزير بهاء الدين بن حنا، يصف له حروب بيبرس مع التتار وبنى سلجوق واقتلاعه مدينة قيسارية من أيديهما مع ما أخذ فى طريقة إليها من الحصون والبلاد، مصورا مسيرة الجيش المصرى فى جبال شامخة مذلّلا فيها طريقه لا يعوقه عن مقصده عائق.
والرسالة طويلة فى نحو خمس عشرة صحيفة مدّونة فى الجزء الرابع عشر من صبح الأعشى، وهى وثيقة تاريخية بحروب بيبرس للتتار والسلجوقيين فى ذى القعدة من سنة ٦٧٢ وفيها يقول:
«سرنا لا يستقر بنا فى شئ من المهالك قرار، ولا يقتدح من غير سنابك الخيل نار، ولا نمرّ