للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

على مدينة إلا مرور الرياح على الخمائل فى الأصائل والأبكار، ولا نقيم إلا بمقدار ما يتزيّد الزائرين من الأهبة، أو يتزوّد الطائر من النّغبة (١)، نسبق وفد الرّيح من حيث ننتحى، وتكاد مواطئ خيلنا بما تسحبه أذيال الصوافن (٢) تمّحى، تحمل همّنا الخيل العتاق، ويكبو البرق خلفنا إذا حاول بنا اللحاق، وكلّ يقول لسلطاننا نصره الله:

أين أزمعت أيّهذا الهمام ... نحن نبت الرّبى وأنت الغمام

وبتنا هنالك ليلة نستحقر بالنسبة إلى شدّتها ليلة الملسوع، وتتمنّى العين بها هجمة هجوع، وأخذنا فى اختراق غابات أشجار تخفى الرفيق عن رفيقه، وتشغله عن اقتفاء طريقه، ينبرى منها كل غصن يرسله المتقدم إلى وجه رفيقه، كما يخرج السهم بقوة من منجنيقه، حولها مغائر أحجار كأنها قبور بعثرت، أو جبال تفطّرت (٣)، بينها مخائض لا بل مغائض ماخر جنا منها إلا إلى جبال قد تمنطقت بالجداول وتعممت بالثلوج، وعمّيت مسالكها فلا أحد إلا هو قائل: فهل إلى خروج من سبيل أو إلى سبيل من خروج، تضيق مناهجها بمشى الواحد، وتلتفّ شجراتها التفاف الأكمام على السواعد».

وعلى هذه الشاكلة يتدفق ابن عبد الظاهر فى الرسالة دون أى عائق من لفظ غريب أو أسلوب ملتو، بل سيولة وعذوبة مع السجع الرشيق ومع ما يشاء من الجناسات والاستعارات دون أن نشعر بالكلفة أو بشئ منها، وفى صبح الأعشى رسائل وعهود له بديعة، منها عهد الظاهر بيبرس لابنه الملك السعيد وعهد قلاوون لابنه الملك الأشرف خليل، وفيه ينوه ابن عبد الظاهر بالأشرف على لسان أبيه قلاوون قائلا:

هو الذى بقواعد السلطنة أدرى وبقوانينها الأعرف، وعلى الرعايا الأعطف، وبالرعايا الأرأف، وهو الذى ما قيل لبناء ملك هذا عليّه قد وهى إلا وقيل هذا خير منه ومن أعلى بناء سعد أشرف، والذى ما برح النصر يتنسّم من مهابّ تأميله الفلاح، ويتبسّم ثغره فتتوسم الثغور من مبسمه النجاح، ويقسم نوره على البسيطة فلا مصر من الأمصار إلا وهو يشرئب إلى ملاحظة جبين عهده الوضاح. . والذى كم جلا ببهىّ جبينه من بهيم، وكم غدا الملك بحسن روائه ويمن


(١) النغبة: الجرعة.
(٢) الصوافن: جمع الصافن وهو الفرس
(٣) تفطرت: تشققت.

<<  <  ج: ص:  >  >>