للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

منهم بطريق لا صق، ولا جبل شاهق، فقال: هذا منخفض أوعال».

والكلمات والسجعات تنزلق عن اللسان فى خفة إذ كانت ملكته الأدبية خصبة، فهى ما تزال ترفده بما يريد من الألفاظ التى تروق فى السمع لا بسجعها فحسب، بل أيضا بجرسها وحسن انتخابه لها، وما يوفره لها من محاسن بديعة بقدر الحاجة دون تكثر يحيلها إلى تكلف شديد. وحقا كان يتصنع أحيانا لبعض مصطلحات النحو ولكنه لأياتى بها إلا فى الحين بعد الحين ما عدا رسالة اقترحت عليه أن تكون توقيعا لمدرس نحو استهلها بقوله مداعبا: «حرس الله نعمة مولاى، ولا زال كلم السعد من اسمه وفعله، وحرف قلمه يأتلف، ومنادى جوده لا يرخّم وأحمد عيشه لا ينصرف» ومضى فيها على هذه الشاكلة متصنعا لمصطلحات النحو، ولكن من الحق أنه أرادبها إلى الدعابة، وعلى نحو ما كان يبشر بالفتوح كان يبشر بوفاء النيل وله فى ذلك رسائل بارعة يقول فى إحداها:

«نعم الله وإن كانت متعددة، ومنحه وإن غدت بالبركات متردّدة، ومنّته وإن أصبحت إلى القلوب متوددة، فإن أشملها وأكملها، وأجملها وأفضلها، وأجزلها وأنهلها، وأتمهّا وأعمّها، وأضمّها وألمّها، نعمة أجزأت المنّ والمنح، وأنزلت فى برك سفح المقطّم أغزر سفح، وأتت بما يعجب الزرّاع، ويعجز البرق اللمّاع، ويعلّ (١) القطاع، ويغلّ (٢) الأقطاع، ويأتى فى الغد بأكثر من اليوم وفى اليوم بأكثر من الأمس، ويركب الطريق مجدّا فإن ظهرت بوجهه حمرة فهى ما يعرض للمسافر من حر الشمس. . وبينا يكون فى الباب إذا هو فى الطاق، وبينا يكون فى الاحتراق (٣)، إذا هو فى الاجتراء للإغراق، وبينا يكون فى المجارى، إذا هو فى السوارى (٤)».

والتورية واضحة فى كلمة سفح الثانية، إذ ليس معناها معنى سابقتها وهى سفح جبل المقطم إذ أراد الانصباب من قولهم سفح الماء إذا صبّه. واقتبس من القرآن الكريم قوله عز شأنه فى سورة الفتح (يعجب الزرّاع) واقتباسه من الذكر الحكيم كثير فى كتاباته كما أسلفنا. وتعليل ما يخالط النيل من الطمى بأنه نفس الحمرة التى تعرض للمسافر من طول سفره وتعرضه للشمس تعليل حسن يدل على عمق تخيله وطرافته. وتصويره لفيضان النيل وأنه سرعان ما يملأ مجرى النهر وتعلو أمواجه ويطفح عبابه ويتمادى طوفانه، فبينا يدخل سدّة باب إذا هو فى الطاق وأعلى الشرفات،


(١) يعل القطاع: يروى قطاع الأرض مرارا.
(٢) يغل الأقطاع: يجعل الضياع تعطى الغلّة والثمار
(٣) الاحتراق: قلة الماء.
(٤) السوارى: يريد الأعالى.

<<  <  ج: ص:  >  >>