للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ووردها كلما مرّ يحلو، أيامها أعياد، وأوقاتها أقوات القلوب والأكباد. من «القاصرات الطّرف» فى كل قصر وهى على الإطلاق ذهبية العصر. . لا تنزل الحوادث ساحتها، ولا يعرف التعب من صافح راحتها، حمراء تخلع ثوبها على الندمان، بل تكاد تطبق عينها على الإنسان».

وهو ينثر فى الرسالة كثيرا من التصاوير مع القدرة البديعة على صياغة السجع والاقتباس فيه أحيانا من لفظ الذكر الحكيم كقوله مورّيا عن دنّ الخمر الزجاجية بما جاء فى سورة النمل من وصف الصرح فى قصر سليمان عليه السلام الذى شمرت بلقيس ملكة سبأ ثوبها حين دخلته إذ (حسبته لجّة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرّد من قوارير) أى من زجاج شفّاف لا يحجب ما وراءه. ووصف بدر الدين بن الصاحب الخمر التى دعا ابن مكانس إليها بأنها من القاصرات الطرف اللائى لم يمسسهن أحد، أخذا للكلمة من الذكر الحكيم، ولم يلبث أن قال إنها ذهبية العصر. والتورية واضحة إذ لا يريد أن عصرها ذهبى كما يقال عصر هرون الرشيد الذهبى مثلا وإنما يريد أنها صفراء اللون حين تعصر من عنبها وكرمها. وفى السجعتين التاليتين بآخر القطعة توريتان واضحتان، فهو لا يريد. بلفظة «راحتها» كفّها كما تشهد لذلك كلمة صافح، وإنما يريد الخمر نفسها إذ تسمى راحة. وبالمثل لا يريد فى السجعة التالية بالإنسان إنسان العين وسوادها وإنما يريد الإنسان الحقيقى الذى يحتسيها.

وظلت الرسائل الشخصية تتداول بين الأدباء طوال الحقبة العثمانية، ودخلها غير قليل من التكلف والتصنع. ونسوق قطعة حينئذ من رسالة محمد بن أبى الحسن البكرى الذى مرت ترجمته، أرسل بها إلى النور العسيلى ليتسلى بمجلسه فى منتزه نضر يلتقى فى شاطئه ماء النيل وقت فيضانه بخضرة الزروع الزاهية، وفيها يقول (١):

«سيدنا البرّ الذى يجرى بحر الفضائل من برّه، ويعذب الورد والصّدر بما يصدر من صدره، ويفيض إحسانه نهرا لراجيه وآمله، وتبتدر الأنام لتلقى تيار أنامله، وتتزاحم على سيف (٢) زخّار علومه، تزاحم رقاب أعدائه على سيفه وخصومه. . ومدينة بولاق هى مجتمع البحور، ومدار فلك السرور، بفلك الحبور، طفحت بالنيل لا جزر عن الجزر مدّه المديد، واستلّت سيف النهر لقطع حروف الجروف من أقصى الصعيد».

والرسالة تجرى على هذه الصورة من التكلف الشديد كما يلاحظ فى السجعات الأخيرة، وقد تصنع فيها لذكر مصطلحات الفلك والعروض والنحو. ولمحمد الطيلونى من كتاب القرن الحادى


(١) ريحانة الألبا للخفاجى (طبعة الحلبى) ٢/ ٢٢٩
(٢) سيف: شاطئ.

<<  <  ج: ص:  >  >>