للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

«لا غرو أن فضح بديع (١) الزمان بلفظه البديع، وأزهرت الأوراق بمنثور رسائله التى كل فصل منها ربيع، وتبارك الذى جعل فى سماء دوحته لشمس بلاغته بروجا، وأعلى هممه التى لا ترضى الشهب جيادا والأهلّة سروجا. . وقد زهت أمداحه المؤيدية (٢) فأصبحت بيوته المرفوعة (ذات العماد) وراقت محاسنه التى (لم يخلق مثلها فى البلاد). . وطالما سرّح الناظر فى بستانها نظره، ورام (٣) ابن سكّرة فتح الأبواب لمعارضة قطرها النباتى فوجدها مسكّره (٤)، وعلم المتنبى أن هذا خاتم الأدباء لا محاله، والمترسل الذى نهض دونه بأعباء كل رساله».

والتقريظ زاخر بالاقتباس لآى القرآن الكريم وألفاظه كقوله فى مديح أبيات ابن نباته إن بيوته المرفوعة أصبحت ذات العماد. وفى كلمة بيوت تورية إذ لا يريد بيوت الشعر من الخيام التى ترفعها الأعمدة أخذا من قوله تعالى فى سورة الفجر {(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ)} أى أنهم كانوا أهل خيام وأعمدة، وهو لا يريد ذلك كله وإنما يريد بيوت شعر ابن نباتة أو أبياته.

وأكمل فى العبارة التالية وصف القرآن فى السورة نفسها لعاد بقوله: (التى لم يخلق مثلها فى البلاد). وراعى النظير مراعاة دقيقة حين ذكر ابن سكرة فذكر معه القطر النباتى يريد شعر ابن نباتة الحلو. وحين ذكر المتنبى أشار إلى ما قيل من تنبؤه وأنه نهض عنه بأعباء كل رسالة ومعروف أنه لم يثبت تنبؤ المتنبى تاريخيا غير أن القيراطى رأى استغلال ذلك فى جلب ما يخدم غرضه من مراعاة النظير والتورية بكلمة رسالة. وربما كان أكثر من رسائل التقريظات رسائل الاستدعاءات، إذ كان الأدباء من الكتاب والشعراء يستدعى بعضهم بعضا للمشاركة فى مجالسهم وما بها من أنس ومدام ومن رفاق وصحاب. ولبدر الدين بن الصاحب المتوفى سنة ٧٨٨ للهجرة رسالة (٥) طويلة أرسل بها إلى فخر الدين بن مكانس يدعوه لمجلس أنس وشراب، واصفا له ما سيتمتع به معه من خمر معتقة، وكأنه كان من المدمنين عليها فى غير تحرج، وله يقول:

«هل لك-بسط الله آمالك، وضاعف نعيمك ودلالك-فى عذراء مصونة، كالدرة المكنونة، فتّانة مفتونة، كأن على خدها فوق ورده ياسمينة. . لها من ذاتها طرب يغنى عن المزامير، بلقيسية الجمال لها (صرح ممرّد من قوارير) ليلها من حسنها نهار، وضوء وجهها ليد لامسها سوار، تلثمت بالصباح، وتلطفت حتى مازجت الأرواح، أديمها كلما تعتّق يغلو،


(١) بديع الزمان: صاحب المقامات والرسائل المشهور.
(٢) المؤيدية: يريد أمداحه فى المؤيد (انظر ترجمته).
(٣) ابن سكرة: شاعر بغدادى ماجن معاصر للمتنبى.
(٤) مسكرة: مغلقة.
(٥) مطالع البدور للغزولى ١/ ١٥٢ والأدب فى العصر المملوكى للدكتور محمد زغلول سلام ص ١١.

<<  <  ج: ص:  >  >>