للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الرسائل للمستنصر صاحب مصر. . إلا أن أكثر رسائله إخوانيات وما كتبه عن نفسه إلى أصدقائه ووزراء وأمراء زمانه» ويقول عنه ابن خلكان: «صاحب الخطب المشهورة، والرسائل المحبرة، كان من فرسان النثر، وله فيه اليد الطّولى». وبدون ريب كان أبرع كاتب قاهرى فى القرن الخامس الهجرى، كما تشهد رسائله الديوانية والشخصية، واحتفظ ياقوت وابن بسام فى الذخيرة بطائفة كبيرة منها، وأكثرها رسائل شخصية بديعة، من ذلك قوله فى رسالة استعطاف:

«المودّات إذا كانت متينة العقود، صادقة المشهود، موضوعة على أصل عريق، وأساس وثيق، لم تخترمها الشبهة المرمضة (١)، ولم تزلزلها الأباطيل المعترضة، وإن تناقلتها ألسن مختلفة، وعلتها برود من اللفظ مفوّفة (٢)، ولما رأيت زيارة مولاى قد صارت مرقّعة، وجنوب (٣) مودته قد عادت مروّعة، وصرت أرى قوله متناقضا، وماء البشر من وجهه غائضا، من بعد ما عهدته:

تنبى طلاقة وجهه عن وجهه ... فتكاد تلقى النجح قبل لقائه

وضياء وجه لو تأمّله امرؤ ... صادى الجوانح (٤) لارتوى من مائه

لم أتجاسر على سؤاله عن العلة خوفا أن يعيب علىّ الارتياب بودّه، ويتطرّق سوء الظن على عهده، فسألت من يعلم دفائنه، ويخبر ظاهره وباطنه، فأخبرنى أن بعض الناس-ولم يسمّه- نقل إليه عنّى فشنّ الغارة على وفائه، وزلزل أواخى (٥) وده وإخائه، فقلت: عتب، والله ولا ذنب، وشكاية ولا نكاية (٦)، وأنا أحاكم مولاى إلى إنصافه، لا إسعافه، وعدله، لا فضله، وما كان أجدره برفض قول الماحل (٧)، وتغليب الحقّ على الباطل. . والآن فقد أوضعت وأوجفت (٨)، وتألفت مولاى واستعطفت، فإن عادت ظلال وده مديدة، وحبال كرمه محصوفة (٩) جديدة، فحسن بتلك الشمائل، أن تجمع شمل الفضائل».

والسجعات تنزلق عن الفم بخفة ورشاقة، تشهد لابن أبى الشخباء بأنه كان كاتبا مجيدا حقا، وأن الكلم كان يطاوعه، ليحيله دررا مختارة. وكان يزين سجعاته بمحسنات البديع من جناس


(١) المرمضة: الموجعة.
(٢) البرود المفوفة: الثياب الرقيقة المخطّطة.
(٣) الجنوب: ريح لينة كالنسيم، والاستعارة واضحة.
(٤) صادى الجوانح: عطشان.
(٥) أواخى: أواصر.
(٦) نكاية: غلبة وقهر.
(٧) الماحل: الساعى بالنميمة.
(٨) أوضع: سار سيرا سريعا، ومثلها أوجف.
(٩) محصوفة: محكمة متينة.

<<  <  ج: ص:  >  >>