للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وطباق. وتكثر عنده الاستعارات المبتكرة الطريفة، وكان يعرف كيف يغوص عليها ويستخرج لآلئها النفيسة من أصدافها البراقة، وطبيعى للقاضى الفاضل وللكتّاب من بعده أن يعنوا بحفظ كلامه ويستحضروه فيما يكتبون ويصوغون. وله من رسالة يعاتب فيها بعض القواد.

«رأيت فلانا عند نظرته لى بالأمس قد قطّب (١) حاجبه، وزعزع مناكبه، فقلت: ماله؟ أأنزل إليه وحى، أم عصب (٢) به أمر ونهى، أم قلّ عقله فعقّ نفسه وظلمها، وجهل مقادير الأشياء وقيمها، واعتقد أن الدنيا طوع حكمه، والفطن صائب فهمه، أم رأى الملائكة المقربين تتشفع به، والحور العين (٣) تشكو لاعج حبّه، وثمار الجنة تدلّت إلى يده، ونار جهنم تقتبس من زنده، والكوثر يمدّ من معينه، والسموات مطويات بيمينه»

وهو عتاب مرير لهذا القائد الذى شمخ بأنفه عليه، وتعالى واستكبر استكبارا، فمضى يهزأ به ويسخر منه سخريات متعاقبة، فهو ليس نبيا مرسلا. ولا آمرا ناهيا، بل هو جاهل مغرور، لا يعرف قيم الناس ولا أقدارها، وكأنما ظن أنه الحاكم بأمره وأن عقله مجمع الفطن، بل لكأنما توهم أنه نبى تتشفع به الملائكة، وأن الحور العين تشكو تباريح حبه، وأن ثمار الجنة مدّ يده، ونار جهنم تقتبس من زنده الوارى المضطرم، ومن معينه يستمد نهر الجنة، أو أحد أنهارها:

الكوثر. بل لكأنما توهم نفسه رب الكون، وخال السموات مطويّات بيمينه. وعلى هذا النحو تتوالى سخرياته، يطعن بها هذا القائد فى الصميم، وفى آخر القطعة اقتباس واضح لآية سورة الزمر: (والسموات مطويّات بيمينه). ويكثر هذا الاقتباس لآيات القرآن الكريم وألفاظه فى رسائله، كما يكثر الاستشهاد بالشعر وإنشاده فيها مازجا له بكلامه. وكلّ ذلك وما تقدم من استخدامه للمحسنات البديعية وضعه الكتاب المصريون بعده شعارا لهم وسننا فى رسائلهم وله من رسالة فى هجاء مضيف ومائدته.

«ولجت منزلا قد استعار من قلب العاشق حرّا ورهجا (٤) ومن أخلاق مالكه ضيقا وحرجا، كأنما زفرت فيه النار، ونقّط على جدرانه بالقار، فجلست طويلا إلى أن حضر الإخوان، وقدّم


(١) قطب: عبس وضم حاجبيه
(٢) عصب به: ضمّ إليه.
(٣) العين: جمع عيناء: واسعة العينين جميلتهما.
(٤) رهجا: غبارا

<<  <  ج: ص:  >  >>