للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

خدّه وخدّه (١). . إلى أن بدت صحيفة وجه صبره مسودّة، وتمنى لو كان الموت قبل إخلافه وعده، وإخلافه ودّه (٢) ودّه (٣)، حتى جنى ورد ورود كتابه الكريم من انتظام شوك انتظاره، ورفع ناظره بقدومه عليه على كافّة أمثاله وأنظاره، فعلم أن علم المودة قد رفع، وموصول حبل الجفوة قد قطع، وكاد القلب يخرج لمصافحته لو استطاع نفاذا، واجتمعت فيه أمانى النفس، فاتخذته دون جميع الملاذّ ملاذا (٤). وتناوله بيد الإجلال، وفضّه بيد الإدلال، فوجده منظوما على خطّ كالكئوس المرصّعة لما لاح مداده مداما ونقطه حببا. وألفاظ تتيح للخواطر طربا، وتعريضات لو كان التصريح فضة لكانت ذهبا، ومنن مالاحت سحائبها حتى وكفت (٥) وأياد ما استكفت فواضلها حتى عمّت وكفت».

ووشى الجناسات والاستعارات واضح فى هذا الفصل، فالزفرات تتضرّم والعبرات تتصرّم بينما يتذمم بالصمت ويتحرم. ولا تلبث أن تلقانا جناساته التامة. فالقلب يلوذ إزاء إعراض صاحبه عنه فى مجلسه بجلده فيضربه بأسواط القلق، حين تجاوز حدّه ومنتهاه، ويحدّه كما يحدّ الجناة، وتجرى سوابق دموعه فتشق خده وتخدّه أى تشقه وتؤثر فيه، وتخلق وتبلى مودة صاحبه فيتمنّى لو كان الموت ودّه وزاره. ويعود ابن مماتى إلى هذا الجناس التام بين «الملاذّ وملاذا، كما يعود إليه فى نهاية الفصل حين وكفت السحب أى أمطرت وعمت فواضل صاحبه وكفت من الكفاية. وتلقانا فى الفصل مراعاة النظير والطباق، وكأنما كان ذلك شعارا له فى نثره. ومن طريف ما أثر عنه من تصويره لوفاء النيل قوله.

«وأما النيل المبارك فإنه عمّ اليفاع (٦)، وطبّق (٧)، البقاع، وانتقل من الإصبع للذراع، حتى لم يلف بمصر قاطع طريق سواه، ولا موهوب مرهوب إلا إياه».

وهو يصور فى هذه الكلمات القليلة فيضان النيل بل طوفانه الذى لا يقاس بالإصبع وإنما بالذراع والذى علا موجه مرتفعات الوادى وجميع البقاع، حتى قطع الطرق وأخذ بخناق الدور والسكان، ورهبه الناس وطلبوا منه الأمان. ولعل فى كل ما قدمنا ما يصور قدرة ابن مماتى البيانية


(١) خده: شقّه وأثر فيه
(٢) إخلاق الشئ: جعله بالبا
(٣) وده: زاره
(٤) ملاذا: ملجأ
(٥) وكفت: أمطرت، وكفت فى آخر الفصل من الكفاية
(٦) اليفاع هنا: مرتفعات وادى النيل
(٧) طبق: عمّ

<<  <  ج: ص:  >  >>