للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويدل هذا الفصل على أن العماد الأصبهانى كان محقا كل الحق فى التنويه ببراعة ابن مماتى الكتابية، وهى براعة تكاد تبدو فى كل سجعة من سجعات هذا الفصل، فأضواء الشمس فى الأصيل تعكس بصفرتها على أطراف الجدران فرقا وفزعا لهول الفراق. وتوارى ذهب الأصيل وراء نار الشفق الملتاع، ولبست المشارق السواد على الشمس الغريقة فى المغارب. وأقبلت مواكب الكواكب، وجيوشها تطالب للشمس بالثأر، متفرقة ومتجمعة وكأنها نثار الدراهم فى الأعراس، أو كأنها الأزهار على الأشجار فى الأسحار، وتكلف القمر أن يظهر وحده لغياب الشمس أخته فظهر الكلف على وجهه، ومرت به الكواكب وطوالعها فلم يسألها ما الخبر، حسدا وغدرا كما يغدر الخلف بالسلف. وبدأ الوجوم فى وجوه النجوم، وكاد النسران أن يفقدا صبرهما فواحد طائر يحوم وآخر واقع لا يقوم. ولم تزل النجوم متلاحقة، إلى أن بدا سوسن الفجر وزهره الأبيض المشرق ولاح ضياؤه، وابتسم ثغر الصباح عن أضواء كالأقاح. وطالما شبّه الشعراء مجموعة نجوم الثريا بالعنقود. ويستغل ذلك ابن مماتى، كما يستغل تسمية الشعراء للشمس الغزالة فجعلها تستتر ليلا وراء الأفق فى كناس ككناس الغزال والظباء فى الشجر. ومراعاة النظير واضحة فى السجعات الأخيرة. ويشيع فى الفصل كله حسن التعليل، كتعليل ابن مماتى الرائع لصفرة الأصيل على أطراف الجدران، وتعليله لانتشار الظلام فى بواكير الليل على المشارق حزنا على غرق الشمس، وهو حزن تبعه لبس السواد، ومن هذا اللون أيضا تعليله لكلف القمر لتكلفه الحزن على غرق الشمس. ويتمادى ابن مماتى مع مراعاة النظير، فيجعل القمر لا يسأل الكواكب عن مصير الشمس حسدا يستشعر فيه من تلقاء نفسه غدر الخلف المعروف بالسلف. ومن هذا اللون أيضا ما علل به طيران أحد النسرين ووقوع صاحبه لما فقدا من صبرهما. وتتلاحق فى تضاعيف ذلك الاستعارات، وما يوشى به سجعاته من الجناسات والطباقات. وله من صدر مكاتبة:

«لم يزل العبد لما عرض من إعراض المجلس. . ذا زفرات سوام تتضرّم (١)، وعبرات هوام تتصرّم (٢)، وعبارات عن بسط عذره تعثر بالكلام عيّا فيتذمّم (٣)، بالصمت عن أن يتحرّز ويتحرّم (٤)، وأفكار تتنزّه عن إساءة الظن بمودته فما يتكدّر حتى يتكرم، فكم تناول القلب جلده، فجلده بالقلق لما تجاوز حدّه وحدّه (٥)، وأجرى من سوابق دموعه عسكرا أجرى فشق


(١) سوام: لازمة لا تبرح. تتضرم: تشتغل
(٢) هوام: سائلة. تتصرم: تتقطع
(٣) يتذمم: يتوسل
(٤) يتحرم: يجده حراما
(٥) حده: ضربه بالسياط

<<  <  ج: ص:  >  >>