للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فصيحا بليغا. . وهو أحد فحولة الشعراء بالديار المصرية فى عصره، وشعره فى غاية الحسن والرقة والانسجام، وديوان شعره مشهور كثير الوقوع بأيدى الناس» وكان كثير التورية فيه على نحو ما يتضح مما رواه له مترجموه وخاصة الحموى صاحب خزانة الأدب. وله رسائل شخصية تدل على روعته البيانية، من ذلك رسالة احتفظ بها القلقشندى فى صبحه كتب بها إلى بدر الدين البشتكى فى غيبته عن مصر بدمشق سنة ٧٨٤ وتصادف أن كان فيضان النيل عاليا وزاد زيادة مفرطة، فرأى أن يصور له ذلك قائلا:

«ربّنا اجعلنا فى هذا الطوفان من الآمنين، وسلام على نوح فى العالمين. ما تأخير مولانا بحر العلم وشيخه عن رؤية هذا الماء؟ . . فإنه قارب النيل أن يمتزج بنهر المجرّة بل وصل وامتزج، وأرانا من عجائبه ما حقق أنه المعنىّ بقول القائل: حدّث عن البحر ولا حرج. . وسقى الناس من ماء حياته المعهودة كما شربوا من الموت أصعب كاس، وسئل ابن أبى الرّدّاد عن قياس الزيادة فقال:

زاد بلا قياس، امتلأ اليباب (١)، وهال العباب، كال فطفّف، وزار فما خفّف، جمع فى صعوده إلى الجبال بين الحادى والملاّح، ودخل الناس إلى أسواق مصر وخصوصا سوق الرقيق على كل جارية ذات ألواح (٢)، وغدا التيّار ينساب فى كل يم كالأيم (٣)، وأصبحت هضاب الموج فى سماء البحر وكأنماهى قطع الغيم، واستحالت الأفلاك فكل برج مائىّ، وتغيّرت الألوان فكل ما فى الأرض سمائى. . وتحالى إلى أن أقرف (٤) الليمون الأخضر، واحمرّت (٥) عينه على الناس فأذاقهم الموت الأحمر، ولقد صعب سلوكه وكيف لا وهو البحر المديد، وأصبح كل جدول منه جعفرا (٦) ويزيد. . ولكم قال الهرم للسّارين، يا سارية الجبل، وأنشد وقد شمرّ ساقه للخوض: أنا الغريق فما خوفى من البلل، وكم قال أبو الهول: لا هول إلاّ هول هذا البحر، وقال المسافرون: ما رأينا مثل هذا النيل من هنا إلى ما وراء (٧) النهر. . ولو رآه مولانا وقد هجم على مصر فجاس خلال الديار، ودخل إلى المعشوق فتركه كالعاشق المهجور لم ير منه غير الآثار، لبكى بعينى عروة (٨)، وأوى من الرّصد إلى ربوة. . وكل سفينة قد علت على وجه الماء، وارتقت لارتقاء البحر إلى أن اختلطت بالسماء، وقد قالت لها أترابها عند الفراق إلاّ ترجعى،


(١) اليباب: القفر والخراب.
(٢) يريد السفن
(٣) اليم: البحر. الأيم: الحية الذكر
(٤) أقرف هنا: عطّر، من القرفة المعروفة طيبة الرائحة
(٥) احمرت عينه: كناية عن الحمرة فى طمى النيل
(٦) الجعفر: النهر الصغير.
(٧) ما وراء النهر: ماوراء خراسان فى شماليها الشرقى
(٨) عروة هو عروة بن حزام العاشق المشهور فى صدر الإسلام

<<  <  ج: ص:  >  >>