للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقلنا لها نحن على سبيل التفاؤل: (يا سماء أقلعى (١)). . ولقد طار النّسر مبلول الجناح، ودنا نهر المجرة من السّكارى بالشخاتيت (٢) إلى أن كاد يدفعه من قام بالرّاح، ونرجس البساتين وقد ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم. . والورد وقيل له مالك من آس، وغصن البان وقد قيل له طوبى لمن عانقك ولا باس».

ونكتفى بهذه المقتطفات من الرسالة فإنها طويلة، وهى رسالة بديعة فى وصف فيضان النيل وسمو أمواجه وارتفاعها إلى أعلى الأعالى فى شواطئ النيل حتى كادت أن تمتزج بالمجرة فى السماء كما يقول ابن مكانس، فإذا الحادى للإبل يلتقى بالملاح، وإذا الناس يدخلون إلى أسواق مصر والفسطاط على سفن ذات ألواح. فقد انسابت غدرانه وأمواجه إلى الطرقات والشوارع وتعالت هضاب أمواجه إلى السماء حتى لكأنها قطع السحاب. ولم تعد هناك أرض وسماء ولا أفلاك ووهاد، وحلا النيل وتظرف حتى عطّر الليمون الأخضر، واحمرت عينه إشارة إلى طميه الأحمر، فأغرق الناس وأذاقهم الموت الزّؤام. ويستمر ابن مكانس فى هذه الاستعارات، فيخلط بين النيل وبين وزن المديد الصعب فى الشعر وبحره وكذلك بين جداوله والجعفر أى النهر الصغير. ويستعير الكلمة المأثورة عن عمر بن الخطاب وهو على المنبر حين هتف بقائده سارية وهو يحارب فى الشام فقال له يا سارية الجبل أى الزمه ويقال أن الريح حملت الكلمة إلى سارية.

وما أروع تصويره لهرم الجيزة وقد شمر ساقه للفيضان حين علا إلى جدرانه فقال متمثلا بشطر من الشعر: أنا الغريق فما خوفى من البلل. وقد ورّى بكلمة ماوراء النهر فهو لا يريد ماوراء النيل من بلاد السودان وإنما يريد ماوراء خراسان فى أوزبكستان الحالية وكانت تسمى بلاد ماوراء النهر.

والمعشوق بستان ورباط عظيمان كانا بظاهر القاهرة. وقد اقتبس من الحديث عن الطوفان فى القرآن الكريم: (ويا سماء أقلعى). وتلقانا فى الرسالة آيات أخرى وأشعار كثيرة منثورة. وما أسرع ما جاء باقتباس من سورة يوسف عن أبيه وقد أسف عليه: (وابيضّت عيناه من الحزن فهو كظيم). وورّى فى كلمة آس فهى تحمل معنيين: الآس زهر وردى أو أبيض، والآسى الطبيب المداوى. والاستعارات بديعة هى وما تتحلّى به من زخارف البديع وحلاه ومحسناته من جناس وطباقات ومراعاة نظير وحسن تعليل.

ووشى شخص قيروانى ضرير إلى أبى بكر بن العجمى أحد الكتاب النابهين فى ديوان الإنشاء


(١) أقلعى: أمسكى عن الماء
(٢) الشخاتيت: لعلها القوارب.

<<  <  ج: ص:  >  >>