للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

خطّ أرقمه (١)، فتاقت النفس إلى الإحماض بمفاكهة أديب، والارتياض بمذاكرة لبيب، وإذا الغلام قد دخل وأسرع، وقال: الباب يقرع. فقلت له: ما الشان؟ فقال جماعة من الإخوان، منهم فلان، فذكر لى كل صديق صدوق، ورفيق رفيق، فقلت: ويحك عجّل بفتح الباب، وأذن للأحباب، فهم نزهة النفس، وثمرة الأنس».

وتمضى المقامة بهذا السجع الخفيف، الذى يكاد يطير عن الأفواه طيرانا بعذوبته وقصره، وحسن الاختيار للفظه. ويلقانا بأخرة من أيام الدولة الفاطمية الرشيد (٢) بن الزبير المتوفى سنة ٥٦٢ وهو أخو المهذب الذى ترجمنا له بين الشعراء وكان شاعرا مثله، ويقول ابن خلكان له ديوان شعر، وكان من أهل الفضل والنباهة والرياسة صنّف كتاب جنان الجنان ورياض الأذهان فى شعراء عصره، وكان تكملة لكتاب اليتيمة للثعالبى وسقط من يد الزمن، وقال العماد الأصبهانى عنه: «أوحد عصره فى علم الهندسة والرياضيات والعلوم الشرعيات والآداب» ويقول ياقوت عنه: «كان كاتبا شاعرا، فقيها نحويا لغويا عروضيا مؤرخا منطقيا. مهندسا، عارفا بالطب والموسيقى والنجوم متفننا». ومن كتبه كتاب منية الألمعىّ وبلغة المدعى، وهو موسوعة علمية.

وصوّر معارفه الكثيرة فى مقامة تسمى المقامة الحصيبية (٣)، استعرض فيها جوانب من معارفه العلمية الواسعة، وهو يدير فيها الحوار بينه وبين طائفة من العلماء بادئا بعالم نحوى موردا عليه من النحو ومسائله ما يبهره. ويصنع نفس الصنيع بعالم بلاغى، ويتوالى حواره أو حديثه مع علماء العروض والفقه وأصوله والتفسير والتأويل والفلسفة والمنطق والهندسة والحساب والرياضة وعلم الفلك والهيئة والأجرام والكواكب العلوية وعلم الطب. حتى إذا أنهى المقامة تلاها بشرح لما جاء فيها من مسائل هذه العلوم ومصطلحاتها. والمقامة تموج بالسجع، من ذلك قوله فى مطالع مقامته ناعيا على من لا يعرفون سوى علم أو علمين ويعمدون إلى التزيّى بزى الزهاد والصوفية احتيالا على الناس ليسبغوا عليهم من أموالهم، وهم لا يقدرون العلوم حق قدرها فضلا عن التغلغل إلى مسائلها ومشاكلها:

«أحسبتم يا أعلام الضلال أن كل من نظر فى علم أو علمين وحفظ مسألة أو مسألتين ثم قصّر سرباله (٤)، وقصّ سباله (٥)، مظهرا للنسك والزهادة، متعرضا للاستفادة فى معرض


(١) أرقمه: أكتبه
(٢) انظر فى الرشيد وترجمته الخريدة (قسم شعراء مصر) ١/ ٢٠٠ وابن خلكان ١/ ١٦٠ والشذرات ٤/ ١٩٧، ٢٠٣
(٣) من هذه المقامة مخطوطة بدار الكتب المصرية ومخطوطتان بمكتبة الإسكندرية
(٤) سرباله: ثوبه
(٥) سباله: شاربه

<<  <  ج: ص:  >  >>