للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وتكثر المقامات فى أيام المماليك، وتأخذ طابع المناظرات والمفاخرات، وكأنما نسى أصلها عند الهمذانى والحريرى نهائيا، فلا بطل صاحب حيل، ولا قصص، وإنما حجاج وجدال وتوليد لا يكاد ينتهى للأدلة والبراهين، مع السفسطة والمغالطة وقلب المحاسن مساوى بغرض الإفحام وإظهار القدرة على القهر والغلبة، ومع المبالغات والإفراط فيها بهدف الاستعلاء. ومن طريف هذه المقامات والمفاخرات المفاخرة بين السيف والقلم لابن نباتة (١)، وفيها يستهل القلم مفاخرته بقوله تعالى: {(ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ)} وهى براعة استهلال واضحة، وما يلبث أن يقول ابن نباتة عنه.

«إن القلم منار الدين والدنيا، ونظام الشرف والعليا، وزمام أمور الملك السائرة، وقادمة (٢) أجنحته الطائرة، ومطلق أرزاق عفاته (٣) المتواترة، وأنملة الهدى المشيرة إلى ذخائر الدنيا والآخرة، به رقم كتاب الله الذى لا يأتيه الباطل وسنة نبيه صلّى الله عليه وسلم التى تهذب الخواطر الخواطل (٤). . إن نظمت فرائد العلوم فإنما هو سلكها، وإن علت أسرّة الكتب فإنما هو ملكها. . وإن وعد أوفى بجلب النّفع، وإن أوعد أخاف كأنما يستمد من النّقع (٥)».

ويستمر القلم فى هذه المفاخرة، فهو الذى يأمر بالجهاد والسيف نائم فى قرابه، وهو الذى يأمر بالعدل والإحسان، مع المحاماة عن الدين وما ينزل بالأعداء من الرعب. وكأن ابن نباتة يريد ان يعلى فضله على السيف حتى فى الحرب وجهاد الأعداء. ويستغفر القلم من الشرف وخيلائه والخيلاء وكبريائه. وينبرى السيف مدافعا عن حماه مستهلا كلامه بقوله تعالى: {(وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)} ويحمد الله الذى جعل الجنة تحت ظلال السيوف. ويفاخر القلم بعزمه الثاقب وفتوحه، مما جعل الناس يدخلون فى دين الله أفواجا. وينتفض القلم فى دواته ويضطرب على وجه القرطاس، وينفجر قائلا للسيف فى حدة وعنف.

«أتفاخرنى وأنا للوصل وأنت للقطع، وأنا للعطاء وأنت للمنع، وأنا للصلح وأنت للضّراب، وانا للعمارة وأنت للخراب، وأنا المعمر، وأنت المدمر. . وأنا ذو اللفظ المكين وأنت


(١) خزانة الأدب للحموى ص ١٣٠، ٥٤٥
(٢) قادمة الأجنحة: ريشات أربع كبار فى مقدمة الجناح
(٣) عقاته: طلاب معروفه.
(٤) الخواطل: الحائدة عن الصواب
(٥) النقع: غبار الحرب. والوعد يكون فى الخير والإبعاد فى الشر

<<  <  ج: ص:  >  >>