وهو وصف رائع لفيضان النيل وعلو أمواجه، كأنما يريد أن يبلغ عنان السماء، وحلّقت الطير فى أعلى عليين فرقا منه واعتصم الناس بالكثبان والجبال. ويصف ابن أبى حجلة زحفه على الفسطاط أو كما يسميها مصر وطغيانه على الجيزة حتى علا قناطرها وجرّد القصب من بزّته، وطما عليه حتى غرق فى قاعه، وقطع طريق الزاوية أو خانقاه الصوفية وأدركهم جميعا الغرق فى عبابه، وخرّ عليهم السّقف من فوقهم، ولا ملجأ ولا مناص، وأحاط بجزيرة الروضة إحاطة السوار بالمعصم، ولم تستطع دفع أصابعه التى يقاس بها عادة طوفان فيضانه، ولا ردّ مجرييه أو كما يسميهما ابن أبى حجلة بحريه من حولها آخذين بخناقها، كأنما يريدان أن تصبح خاوية على عروشها. ويصف دار النحاس وما أصابها وأصاب جامعها من مياهه المتدفقة، ويصف ما أنزله بجزيرة أروى ومغانيها وكيف عمّ ما بها من الخضراوات مثل «القلقاس» وقد تكسر، وهو يتضرع بأصابعه إلى ربه إذ أصبح عاليه سافله. وتنبت فوقه فروع ذات ورق عريض، ويتصورها ابن أبى حجلة ستائر له ودرقا أو تروسا غير أنها لم تفده إزاء أمواج النيل وطوفانه.
ويمضى ابن أبى حجلة فيصور ما أصاب بولاق وغير بولاق من النيل فى هذه اللغة العذبة التى عرف كيف يصب فيها وصفه للنيل وفيضانه. وهو يكسوها بألوان البديع من جناس وغير جناس، ولا نحس أى كلفة. وقدرته على بث التصاوير فى لغته واضحة، وهى تصاوير رسمها مصور ماهر. ومن تتمة براعته الأدبية قدرته على اقتباس الأشعار فى موضعها الملائم، وأهم من ذلك قدرته على اقتباس الآيات والكلم القرآنية، فتزيد لغته عذوبة ونصاعة، وهو تارة يأتى بالآيات تامة، وتارة يأتى بكلم منها. ويكثر ذلك فى المقامة، وقد وضعنا الآيات بين قوسين هلاليين تمييزا لها. وقد تمثل فى القلقاس ببيت يحمل شطره الثانى جناسا طريفا مع اسمه. وفى المقامة روح الدعابة والفكاهة المصرية، وكأنه تشربها فى استيطانه بمصر حتى الثمالة. والتورية عنده واضحة فى قوله عن النيل بدار النحاس:«قطع الطريق بالجامع الظهر فألحق مجاز بابه بالحقيقة» ولكلمة مجاز معنيان: معنى قريب وهو ما يخالف الحقيقة بدليل اقترانها به، ومعنى بعيد وهو المعبر الى الجامع. وهو لا يريد المعنى القريب للقلب أى قلب الإنسان مما قد يفهم مع ظاهر استعارته، وإنما يريد ما حدث للقلقاس من القلب فأصبح أسفله أعلاه، وهى تورية بديعة.
ولعل فيما قدمت ما يصور براعة ابن أبى حجلة الأدبية.