وأركان الملك وأطواده. ولسان المملكة الناطق، وسهمها المفوّق الراشق. ويحاور الناثر بن نظام فى كتابة الإنشاء والخراج أيهما أفضل؟ ويجيبه أنّى لكتّاب الأموال التأثير فى فلّ الجيوش من غير قتال، وفتح الحصون من غير نزال. وكأن القلم فى يد كاتب الإنشاء ينال من الأعادى مالا تناله السيوف والرماح. ويأخذ القلقشندى على لسان الناثر بن نظام فى بيان ما يلزم كاتب الإنشاء من حفظ كتاب الله وأحاديث رسوله وجوامع كلمه والعلم بالأحكام السلطانية واستظهار أشعار العرب على مر الأزمنة وأمثالهم وأقوال فصحائهم وخطبهم ورسائلهم مع سعة الباع فى اللغة والنحو والتصريف وفى علوم المعانى والبيان والبديع، ومع معرفة الخط وقوانينه وأصوله وقواعده، ومع ما تتم به الصناعة من الوقوف على علم الكلام وأصول الفقه والأحكام الشرعية والمنطق والجدل وأحوال الفرق والنّحل وعلم العروض والقوافى والرياضيات والهندسة وعلم الطب والبيطرة وعلمى الأخلاق والسياسة وعلم تدبير المنزل والفراسة. وأيضا لا بد من المعرفة بكل ما ذكره القلقشندى بعد ذلك مفصلا فى صبحه من شئون الولايات وألوان المكاتبات والبيعات والعهود والتقاليد والمراسيم والتواقيع والمناشير والأيمان والهدن وطرق البلدان ومسالكها. ويتساءل القلقشندى عمن يضم هذه الرتبة الرئيسة والمنقبة الشريفة؟ ويجيبه الناثر بن نظام إن ذلك قاصر على آل فضل الله العمرى ومنحصر فى سليلة البدر، الذى تدور عليه، فهو ابن بجدتها الذى ترجع فى علومها ورسومها وسائر أمورها إليه.
وللقلقشندى مقامة فى المفاضلة بين العلوم. وهى تنزع منزع المقامة الحصيبية للرشيد بن الزبير التى ألممنا بها فيما مر من حديثنا وفيها يعقد القلقشندى مفاخرة بين نحو سبعين علما ابتدأها بعلم اللغة واختتمها بفن التاريخ ذاكرا فخر كل علم على ما سبقه، محتجا عليه بفضائل موجودة فيه دون سابقه. استهلّها ببيان منافع العلوم بعامة، وذكر أنها اجتمعت يوما فتجادلت وتفاخرت، وكل منها ينتصر لنفسه بالحجج والبراهين الدامغة. وقد تلا فخر علم اللغة بفخر علم الصرف ثم بفخر علم النحو عليه قائلا:
«هل أنت إلا بضعة (١) منى، تسند إلىّ وتنقل عنى، لم يزل علمك بابا من أبوابى، وجملتك داخلة فى حسابى، حتى ميّزك المازنى فأفردك بالتصنيف، وتلاه ابن جنّىّ فتبعه فى التأليف. . وأنت مع ذلك كله مطوىّ ضمن كتبى، نسبتك متصلة بنسبتى، وحسبك لا حق بحسبى. أنا ملح الكلام، ومسك الختام، لا يستغنى عنى متكلم، ولا يليق جهلى بعالم ولا متعلم،