أونس من شوارد العقول وحشيّها، وأشرّد عن روابض المنقول حوشيّها، وألتقط ضالّة الحكمة حيث وجدتها، وأقيّد نادرة العلم حيث أصبتها، مقدّما من العلوم أشرفها، ومؤثرا من الفنون ألطفها، معتمدا من ذلك ما تألفه النّفس ويقبله الطبع، مقبلا منه على ما يستجلى حسنه النظر ويستحلى ذكره السمع. . عارفا لكل عالم حقّه، وموفيا لكل علم مستحقّه، قد استغنيت بكتابى عن خلّى ورفيقى، وآثرت بيت خلوتى على شفيقى وشقيقى. . إلى أن أتيح لى من الفتح ما أفاضته النعمة وحصلت من الغنيمة على ما اقتضته القسمة».
وأكبر الظن أن قد اتضح لنا صوت القلقشندى وما يعمد إليه من حسن الجرس فى انتخاب ألفاظه وقوافى أسجاعه، بحيث لا نكاد نشعر بتكلف عنده، والجناس يرصّع كلامه على نحو ما نرى فى التكليف والكلف، وأشراك (حبالات) الصائد، والإشراك، وشوارد وأشرّد، والوحشى والحوشى، ويستجلى ويستحلى، وحقه ومستحقه، ورفيقى وشفيقى وشقيقى، وكل ذلك يمر على اللسان والسمع دون أى إحساس بنبو أو كلفة غير مستحبة، وبالمثل يرصّع كلامه بطباقات كثيرة من مثل التفرق والجمع والتوحيد والتعطيل وشوارد العقول وروابض المنقول. وفى أثناء ذلك يوشّى كلامه بالتورية إذ يقول:«أنزّه توحيد الاشتغال عن إشراك التعطيل» والتعطيل رفض التوحيد والشريعة، وهو المعنى القريب لسبق التعطيل بالإشراك والتوحيد، وهو لا يريده، وإنما يريد التعطل عن الاشتغال بالعلم والانصراف عنه. وبالمثل لا يريد بالإشراك الكفر الذى قد يفهم من اقترانه بالتعطيل إنما يريد الشركة أو المشاركة، وأيضا لا يريد بالتوحيد توحيد الله لاقترانه بالتنزيه وإنما يريد الوحدة. والتعبير لذلك كله ملئ بتوريات متعاقبة. وبالمثل قوله فى نهاية كلامه:«الفتح» وقد تلاه بالغنيمة والقسمة موريا بذلك عن الفتوح العلمى لا كما يظن من السياق الفتح الحربى. وبالمثل كلمة القسمة فهو لا يريد بها المعنى القريب الملائم للغنيمة وهو القسمة فى الحرب وإنما يريد بها المعنى البعيد وهو الحظ من قولهم قسمة ونصيب.
ولعل خصائص صوت القلقشندى ولغته قد اتضحت لنا تماما فهو كمعاصريه يستخدم السجع ويوشيه بمحسنات البديع وفى مقدمتها، الجناس والطباق والتورية، ونحس عنده بطواعية العبارات المسجوعة ومرانه على استخدام ألوان البديع دون أن نشعر بأى ثقل أو أى عبارة أو كلمة مستكرهة. وإذا مضينا فى قراءة المقامة وجدناه يذكر على لسان الناثرين نظام أنه لا بد لكل إنسان من حرفة يكتسب بها معاشه وأن الكتابة هى خير الحرف، وأفضل أنواعها الديوانية كتابة الإنشاء، إذ لها الذروة المنيفة والرتبة الشريفة، وأصحابها-كما يقول-أسّ الملك وعماده،