للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إلى أن نزلت بمكة الشريفة، فحططت الرّحال بعتابها (١)، وأرحت النفس من عنائها، وظللت أجوب فى مشاهدها وأجول فى معاهدها. . وأتردد فى الغدو والرّواح، وأتزوّد من تلك الآثار فى المساء والصباح، وأتمنى أديبا يسلّى بمسامرته الغربة، وأديبا ينيل بمحاضرته الإربة (٢)، فبينا أنا ذات ليلة فى المطاف، وقد تسمّرت سحائب الألطاف، إذا أنا بشعبة مؤتلفين، وعصبة محتفين، وهم بين سلام وترحيب، وبكاء ونحيب. وفى صدر الحلقة، شاب نحيف الخلقة، قد تدرع بثياب البهاء. قال هاشم بن القاسم: فتساميت إلى لقائه، وتقدمت إلى تلقائه، لأستنور بباطنه على ظاهره، وأستظهر من كامنه على باهره، وأتخذه معاضدا ونصيرا، ومحاضرا وسميرا، فقلت:

وعيت ما منك رأيت، وشمت (٣) ما عنك فهمت، فائت على ما ادّعيت ببرهان من الدلائل، وأجب إلى ما أقترحه عليك من مسائل، فقال: على الخبير سقطت، ومن البحر لقطت، فأوضح عن مسائلك، وأفصح عن مقالك، فقلت: ما تقول فيمن توضأ ولم يمسح أمّه؟ فقال:

لم يصحّ يا أمّة».

والأم الأولى الرأس والوضوء بدون مسحها باطل، وقد ألغز السيوطى بها، كما هو واضح.

وتوالت الأسئلة على هذا النحو مثل هل يجوز بيع الحر؟ والجواب الجواز، لان المراد بالحر الفرس الأصيل. ومثل هل تصح الصلاة على الفحل؟ والجواب تصح لأن المراد بالفحل الحصير المتخذ من فحل النخل.

وللسيوطى مقامة ثانية سماها المقامة الأسيوطية بناها على ألغاز نحوية، محاكاة لمقامة الحريرى المسماة بالمقامة القطعية وهى المقامة الرابعة والعشرون بين مقاماته. وللسيوطى مقامة فكهة سماها «رشفة الزلال من السحر الحلال كتبها على لسان عشرين عالما بينهم المقرئ والمفسر والأصولى والفقيه واللغوى والنحوى، وجعل كلا منهم يصف ليلة زفافه على عروسه بلغة علمه ومصطلحاته. ومن مقاماته مقامة تسمى الجيزية جعل موضوعها لغزا شعريا. وكأنه كان يرى المقامة صالحة لأن تعرض أى موضوع حتى لنراه يتخذ نجاة أبوى الرسول صلّى الله عليه وسلم من النار موضوعا لإحدى مقاماته، وقد سماها المقامة السندسية، وهى مطبوعة، ونجاة أبوى الرسول من النار لا يشوبها أى شك. إذ هما الطاهران الطيبان الذكيان النيّران. ولعل فيما قدمنا ما يدل على الخصائص الأدبية لمقامات السيوطى وبدون ريب كانت ملكاته العلمية أخصب من ملكاته الأدبية.


(١) عتاب: جمع عتبة.
(٢) الإربة: الأمنية.
(٣) شام: نظر متطلعا أو مؤملا شيئا

<<  <  ج: ص:  >  >>