للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أتتنا من البطحاء يبرق بيضها ... وقد رفعت راياتها فاستقلّت (١)

وهو يوازن فى البيتين بين بنى شيبان وجيوش الفرس، فيقول ألا سلمت عينا من رأى عصابة بنى شيبان وإنها لأشد على من يثيرون الحروب من تلك التى أتتنا من البطحاء تبرق خوذاتها وتخفق راياتها. وواضح أنه فصل بين الصلة والموصول فى البيتين، وكأنه لم يعترف بأن للبيت الأول نهاية يقف عندها. وهذا التضمين فى شعره أكثر من أن نمثل له، فليرجع إليه من أراد. والمهم أنه يدل على انفكاك التعبير عنده، فهو لا يتمه فى البيت، بل يتمه فى بيت ثان أو أبيات. ولعل ذلك هو سبب كثرة صيغة التفضيل التى اشتهر بها فى شعره، وذلك أنه حين يبتغى تفضيل شئ على شئ يجعل المفضل عليه مبتدأ منفيّا بها، ثم يسترسل فى وصفه، حتى إذا استوفى ما أراد من هذا الوصف جاء بخبر المبتدأ، على شاكلة قوله فى المعلقة يصف صاحبته وما ينتشر من طيبها:

ما روضة من رياض الحزن معشبة ... خضراء جاد عليها مسبل هطل (٢)

يضاحك الشمس منها كوكب شرق ... مؤزّر بعميم النّبت مكتهل (٣)

يوما بأطيب منها نشر رائحة ... ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل (٤)

فقد بدأ بالمبتدأ وهو الروضة، ووصفها فى بيتين مادحا جمالها وما تمدها به الأمطار وكيف تضاحك الشمس أزهارها ونباتاتها، ثم قال إن هذه الروضة على حسنها وشذاها العطر ليست أطيب من صاحبته شذى ولا أبهى نظما

وواضح من كل ما قدمنا أن الأعشى يعدّ حلقة مهمة من حلقات الشعر الجاهلى، وهى حلقة تضيف جديدا واضحا إلى هذا الشعر سواء فى موضوعاته أو فى معانيه أو فى أحاسيسه أو فى سهولة ألفاظه أو فى خفة أوزانه وجمال أنغامه وألحانه.


(١) البطحاء: موضع بقرب ذى قار. البيض: الخوذ. استقلت: ارتفعت وعلت.
(٢) الحزن: ما غلظ من الأرض وارتفع. وعندهم رياض الحزن أجود وأنضر من رياض المنخفضات. مسبل هطل: كثير الأمطار.
(٣) كوكب: أراد به ما طال من النبات. شرق: ريان من الماء. وأراد بالمضاحكة تفتح الأزهار. مؤزر: لابس إزارا. عميم النبت: ما اجتمع منه وتكاثر. مكتهل: تام.
(٤) الأصل: جمع أصيل وهو الوقت قبل الغروب.

<<  <  ج: ص:  >  >>