للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لم يرقّ غزله ولا خاض فى الخمر، أما الأعشى فأقبل على اللهو والطرب والعكوف على الخمر والاستماع إلى القيان، فكان طبيعيّا أن يسهل الشعر عنده بأكثر مما يسهل عند النابغة، وأن تظهر فيه رقة الحضارة ونعومتها.

ولا يظهر تأثير الحضارة فى سهولة ألفاظه فحسب، بل يظهر أيضا فى خفة أوزانه وجمال موسيقاها، وكأنما أثر فيه كثرة استماعه للمغنيات والغناء، فإذا هو يحيل شعره ألحانا وأنغاما خالصة. وهو كثير التنويع فى أوزانه يستخدم منها التام والمجزوء، ويحسن هذا الاستخدام إلى أقصى الحدود، إذ كان يقتدر على الإتيان بالألفاظ العذبة والكلمات الرشيقة والقوافى المتمكنة.

على أنه ينبغى أن نلاحظ شيئين، هما كثرة ما نحل عليه، وقد أدّى ذلك إلى دخول ألفاظ فارسية فى بعض قصائده، حمل عليه من أجلها المرزبانى فى كتاب الموشح. والذى لا شك فيه أن هذا من صنع المنتحلين، ولا يصح أن نحمل على الأعشى بسببه بل ننحى عنه هذا الشعر على نحو ما نحينا عنه القصيدة رقم ٥٥. أما الشئ الثانى فهو أن الأسلوب عند الأعشى ينفك قليلا عن صورة الأسلوب الجاهلى، ولذلك مظهر واضح هو أننا نفتقد عنده الأبيات المفردة التى تدور فى الحكم والأمثال، وكأنما لم تكن لديه مقدرة زهير والنابغة فى التركيز وحشد المعانى فى الألفاظ القليلة. وربما كان هذا هو سبب كثرة التضمين فى أشعاره كقوله فى مطلع قصيدته الأولى فى ديوانه:

ما بكاء الكبير بالأطلال ... وسؤالى فهل تردّ سؤالى

دمنة قفرة تعاورها الصّي‍ ... ف بريحين من صبا وشمال (١)

فقد جاء بفاعل تردّ فى أول البيت الثانى. ومن ذلك قوله فى قصيدته التى يفخر فيها بتغلّب شيبان على الفرس فى يوم ذى قار:

ولله عينا من رأى من عصابة ... أشدّ على أيدى السّعاة من التى (٢)


(١) الدمنة: آثار الدار. الصبا: ريح جنوبية لينة. تعاورها: تتداولها.
(٢) السعاة: الذين يسعون فى الحرب ويهيجونها.

<<  <  ج: ص:  >  >>