للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لو أسندت ميتا إلى نحرها ... عاش ولم ينقل إلى قابر

حتى يقول الناس مما رأوا ... يا عجبا للميّت الناشر (١)

فلو ضمت ميتا إلى نحرها لدبت فيه الحياة من جديد، وعجب الناس لما يرون من هذا الميت المبعوث. ويبالغ الأعشى أو قل يزيد مبالغته إفراطا، فيقول إن هذا الميت حين يبعث إلى دنياه يخلد فيها ولا ينقل إلى مقبرة من المقابر.

ولا يلاحظ عنده إطرافه بمثل هذه المبالغات فحسب، بل يلاحظ أيضا تعمقه فى صنع الأخيلة والصور، فإذا هو يقع منها على مبتكرات كثيرة، نلاحظها لا فى موضوعه الجديد فحسب، ونقصد الخمر، وإنما فى أقدم الموضوعات وأكثرها دخولا فى البداوة، ونقصد وصف الناقة، إذ يقول فى بعض شعره إنها تجترع الآكام اجتراعا، لما تطوى منها، يقول:

إذا ما الآثمات ونين حطّت ... على العلاّت تجترع الإكاما (٢)

ويقول مصورا سرعة ناقته فى الهاجرة:

بجلالة سرح كأنّ بدفّها ... هرّا إذا انتعل المطىّ ظلالها (٣)

فهى تجرى مذعورة كأن هرّا يخدشها، وليس ذلك الذى يلفتنا عنده، إنما يلفتنا أنه عبر عن تقلص الظلال فى الهاجرة بأنه لم يبق لناقته إلا ظل أخفافها، وهى تنتعله فى خطاها. وتكثر عنده الصور المخترعة فى الخمر، وهى مبثوثة فما أنشدناه من شعره.

ومن أهم ما يلاحظ عنده سهولة لفظه بالقياس إلى معاصريه وسابقيه من قبيلته أمثال طرفة، وما نشك فى أن هذا يرجع إلى أنه تأثر بالحضارة، فرقّت معانيه، ورقت ألفاظه رقة لم تعرف لشاعر جاهلى، وليس لفظه وحده الذى رقّ، بل إن نفسه رقّت هى الأخرى ولانت، فإذا هو يأتى بخمرياته وغزلياته السابقة. وحقّا تأثر النابغة مثله بالحضارة، ولكنا نحس عنده أنه يبقى على كثير من بداوته، ولذلك


(١) الناشر: المنشور أو المبعوث.
(٢) الآثمات هنا: الوانيات. العلات: الحالات المختلفة. حطت هنا: أسرعت. الإكام: المرتفعات.
(٣) جلالة: ناقة ضخمة. سرح: سهلة. الدف: الجانب.

<<  <  ج: ص:  >  >>