فليأخذ فى وصفها مفتنّا فى ذلك افتنانا، فتارة يصف بشرتها وشعرها وعوارضها وتارة يصف مشيتها الوانية وحليها، وتارة يصف تعلق الناس بطلعتها الفاتنة وما تغرق فيه من ترف ونعيم وعطور. ولا يلبث أن يورد علينا هذا البيت الغريب:
علّقتها عرضا وعلّقت رجلا ... غيرى وعلّق أخرى غيرها الرّجل
وهو يصور فيه شقاءه بحبها، فهو يحبها، وهى تعرض عنه، وتحب رجلا آخر، والرجل يعرض عنها ويحب فتاة أو امرأة ثانية. وسرعان ما يعود، فيتذكر كيف كانت تشفق عليه وعلى نفسها حين زارها ذات مرة، فقال:
قالت هريرة لما جئت زائرها ... ويلى عليك وويلى منك يا رجل
فقد بالغ فى وصف ارتياعها وخوفها على نفسها وعليه، حتى إنها لتتفجع وتتوجع إشفاقا وضعفا. ولعل فى هذا كله ما يوضح غزل الأعشى وأنه يمتاز من ناحية بأنه حسى مادى ومن ناحية أخرى برقته المفرطة وتصويره لعواطف المحبين وأحاسيسهم التى يبوحون بها ولا يستطيعون كظمها ولا كتمها، بل يندفعون فى تصويرها معبرين عن ولههم وعشقهم.
والحق أن الأعشى فى شعره جميعه يعد تمهيدا للشعر الحضرى الذى ظهر من بعده، سواء فى غزله وخمره أو فى هجائه ومديحه، فهو فى هذه الموضوعات جميعا يفصح عن ذوق متحضر، سواء فى خطاب الأمراء والأشراف والخضوع لهم أو فى خطاب النساء والتذلل لهن أو فى اللعب بمهجويّه والاستهزاء بهم والاستخفاف، أو فى وصف الخمر ومجالسها ودنانها وكئوسها.
ولعلنا بعد ذلك لا نعجب إذا رأيناه يشبه العباسيين فى مبالغاتهم، فقد كان يسرف على نفسه مثلهم فى تصور ممدوحيه، فإذا هو يقول فى هوذة بن على الحنفى:
فتى لو يبارى الشمس ألقت قناعها ... أو القمر السّارى لألقى المقالدا (١)
فهو لو يبارى الشمس لألقت قناعها خجلا ولو بارى القمر لذلّ له وانقاد صغارا. وهى مبالغة مفرطة، ومثلها قوله متغزلا:
(١) ألقى المقالد: ذل وانقاد، وفى رواية ينادى بدلا من يبارى بمعنى يجالس.