للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويزمزم. فماذا بقى لمجان الفرس فى العصر العباسى. وقل ذلك نفسه فى قصيدته رقم ٣٦ وقد رفضناها لما فيها من حديث عن هلاك الملوك الأولين، وهى ترفض أيضا لما فيها من صور خمرية تنبو على ذوق الجاهليين، إذ يوصف زقّها الأسود وقد طلى بالقار وطرح على الثرى بحبشى نام وانبطح، كما يوصف السكارى وقد تمددوا على الأرض وخذلتهم أرجلهم من غير كسح فلا يستطيعون حراكا بالحبال الممدودة لصيد بعض الطير.

وإذا تركنا خمره إلى غزله لا حظنا أنه لا يقف طويلا عند الأطلال صنيع غيره من الجاهليين، بل يأخذ فى وصف صاحبته ووصف عواطفه نحوها. وقد يعمد إلى نفس الصورة القصصية المبثوثة فى معلقة امرئ القيس، فيتحدث عن مغامراته ووصوله إلى محبوباته من المتزوجات على شاكلة قوله:

فظللت أرعاها وظلّ يحوطها ... حتى دنوت إذا الظلام دنا لها

فرميت غفلة عينه عن شاته ... فأصبت حبّة قلبه وطحالها (١)

حفظ النهار وبات عنها غافلا ... فخلت لصاحب لذّة وخلا لها

فهو يخالس الزوج ويخاتله، حتى يظفر ببغيته. وطبيعى أن يكون غزله ماديّا صريحا لما رأينا من لهوه وخمره، غير أننا نلاحظ عنده رقة فى الغزل وشدة فى الوله والتعلق بالمحبوبة، حتى إن روحه لتكاد تسقط من بين جنبيه جزعا وصبابة، وخاصة حين الوداع. واستمع إليه يقول فى فاتحة معلقته:

ودّع هريرة إن الرّكب مرتحل ... وهل تطيق وداعا أيها الرّجل

فهو يأمر قلبه أن يودعها قبل الرحيل، وسرعان ما يرجع إلى نفسه ينكر ما ظنه فيها من الصبر على الوداع. وهى صبابة لا نعرفها عند الجاهليين، إنما نعرفها عند الأعشى صاحب الذوق الرقيق الذى أثرت فيه الحضارة، وحولته دقيق الحس دقة شديدة فإذا هو يتذلل فى حبه ويخضع، وامض معه فى المعلقة فستجده يشبب بصاحبته منحرفا عن طريقة الجاهليين فى بكاء آثار الديار والأطلال، فهى موضوع حبه وغزله، ولا داعى لأن يذهب بعيدا مع الذكريات، وإذن


(١) الشاة هنا: كناية عن المرأة.

<<  <  ج: ص:  >  >>