للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يعلق عليها الآمال عاما بعد عام، مغاليا فى ثمنها، حتى اشتريناها منه. ويصورها وهى تسقط من دنّها بشعاع الشمس الوهاج، وهى من الصور التى أكثر العباسيون من تداولها، كما أكثروا من الحديث عن رائحتها ووصف دنانها، ومن قوله فى كأس من كئوسها:

وكأس كعين الديك باكرت حدّها ... بفتيان صدق والنواقيس تضرب (١)

سلاف كأنّ الزعفران وعندما ... يصفّق فى ناجودها ثم تقطب (٢)

وهو يشبهها بعين الديك فى صفائها، ويقول إنه باكرها أو باكر سورتها برفاق مخلصين، يشربونها معه فى الأديرة على قرع النواقيس، ويحدثنا عن رائحتها وأثرها فى نفسه، حتى ليتصورها زعفرانا أحمر خلط بصبغ العندم، وقد سطعت منه رائحة زكية. وعلى هذا النحو ما يزال يصف الخمر وصف مفتون بها، معلنا إنه لا يستطيع عنها انصرافا، فهى كل لذته ومتاعه، يقول:

وكأس شربت على لذّة ... وأخرى تداويت منها بها

لكى يعلم الناس أنى امرؤ ... أتيت المعيشة من بابها

وما ينى يتحدث عن مجالسها وما ينثر فيها من ورود وما يكون فيها من قيان وآلات طرب، بنفس الصورة التى تلقانا عند أصحاب الخمر والمجون فى العصر العباسى. ونحن إنما سقنا ما وثّقناه من أشعاره، ومن يرجع إلى ديوانه وما رفضناه من قصائده يستطيع أن يلاحظ عبث الرواة بشعره، فقد أجروا على لسانه خمرية تزخر بالألفاظ الفارسية، وكأنه فارسى أبا وأمّا ممن أتقنوا الشعر العربى فى العصر العباسى وأتقنوا فن الخمرية بنوع خاص، وهى تفترق قصيدته رقم ٥٥ من قصائد أبى نواس وأضرابه فى شئ؟ إنها تكتظ بأسماء الرياحين والأزهار وآلات الطرب الفارسية، ولا يبخل عليه واضعها بذكره لنيل مصر فى تضاعيفها وإجرائه على لسان الأعشى بعض ما كان يجرى على لسان أبى نواس ونظرائه من أن صاحبها مجوسى يصلى عليها


(١) باكر: شربها فى الصباح الباكر. حدها: سورتها وحدتها.
(٢) السلاف: أجود الخمر. العندم: شجر عروقه حمراء يصبغ به. يصفق. يروق. ناجودها: جرتها. تقطب. تمزج.

<<  <  ج: ص:  >  >>