وعاد أبو الحسن الشاذلى إلى الاسكندرية والعلماء والناس يكبّون عليه للاستزادة من علمه وطريقته وتعاليمه. حتى إذا كانت سنة ٦٥٦ خرج إلى الحج عن طريق القصير ومعه أبو العباس وبعض مريديه، وفى صحراء عيذاب بين قنا والقصير أحسّ بدنو أجله فأعلن إلى أتباعه استخلافه عليهم أبا العباس المرسى، ولم يلبث أن أسلم روحه إلى بارئه. وتدل أقواله وأدعيته وابتهالاته ومناجياته لربه فى أوراده على أنه كان يملك ناصية العربية مصرّفا أزمتها كيف شاء، وله أوراد كثيرة، وقد ساق ابن عطاء الله منها فى كتابه لطائف المنن أربعة أوراد له أو أحزاب، لعل أهمها الحزب المسمى بالحزب الكبير وهو يستهله ويتخلّله بآيات قرآنية كثيرة، ويناجى ربه فيه بمثل قوله:
«أللهم إنك تعلم أنى بالجهالة معروف، وأنت بالعلم موصوف، وقد وسعت كل شئ من جهالتى بعلمك فسع ذلك برحمتك كما وسعته بعلمك واغفرلى إنك على كل شئ قدير.
يا رزاق يا قوى يا عزيز! لك مقاليد السموات والأرض تبسط الرزق لمن تشاء وتقدر فابسط لنا من الرزق ما توصّلنا به إلى رحمتك، ومن رحمتك ما تحول به بيينا وبين نقمتك، ومن حلمك ما يسعنا به عفوك، واختم لنا بالسعادة التى ختمت بها لأوليائك، واجعل خير أيامنا وأسعدها يوم لقائك، وزحزحنا عن حب الدنيا وعن نار الشهوة وأدخلنا بفضلك فى ميادين الرحمة، واكسنا من نورك جلابيب العصمة، واجعل لنا ظهيرا من عقولنا، ومهيمنا من أرواحنا، ومسخرا من أنفسنا (كى نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا)».
اللهم إنا نسألك إيمانا دائما، ونسألك قلبا خاشعا، ونسألك علما نافعا، ونسألك يقينا صادقا، ونسألك دينا قيّما، ونسألك العافية من كل بليّة، ونسألك الشكر على العافية، ونسألك الغنى عن الناس».
والمناجاة طويلة، وهو يلم فيها-كما نرى-بطلب المغفرة والرحمة من ربه وأن يكون خير أيامه وأسعدها يوم لقائه وأن ينفّره من حب الدنيا ويعصمه من شهواتها وأن يجعل حياته نسكا وعبادة له. وما يزال فى الورد يتمنى أن يهبه الله رضاه وحبّه وأن يدفع عه كل ضر وأذى وأن يغنيه عن السؤال وأن ينعم عليه بعزّ الدنيا من الإيمان والمعرفة وبعز الآخرة من اللقاء والمشاهدة. ولم يكن يطلب إلى أصحابه أن يشقوا على أنفسهم فى العبادة والنسك وأن يلبسوا الخرق والمرقّعات بل كان يطلب إليهم الرفق بأنفسهم فى التقوى والعبادة، وأن يشتركوا فى الحياة مع مجتمعهم تجارا وزراعا وأصحاب حرف، فإن العمل نفسه يعد عبادة. وبذلك كان يدعو أتباعه أن لا يكونوا عالة على