وتكثر عنده مثل هذه التفريعات والتوليدات فى الكلام، وكأنما يستمد من معين ذهنى وروحى لا ينضب، مع التنويع الدائم فى الأفكار وتشعيبها شعبا وفروعا لا تكاد تقف عند حد، وكأنما يريد أن يشيد منها طبقات، بعضها فوق بعض، أو كأنما يريد أن يرفع منها صروحا شاهقة. وقد يستعين بالتكرار مع تلوين الأسلوب ألوانا مختلفة على شاكلة قوله واعظا:
«كيف يتصوّر أن يحجب الله شئ وهو الذى أظهر كل شئ؟
كيف يتصوّر أن يحجبه شئ وهو الذى ظهر بكل شئ؟
كيف يتصوّر أن يحجبه شئ وهو الذى ظهر فى كل شئ؟
كيف يتصوّر أن يحجبه شئ وهو الذى ظهر لكل شئ؟
كيف يتصوّر أن يحجبه شئ وهو الظاهر قبل وجود كل شئ؟
كيف يتصوّر أن يحجبه شئ وهو الواحد الذى ليس معه شئ؟
كيف يتصوّر أن يحجبه شئ وهو أقرب إليك من كل شئ؟
يا عجبا كيف يظهر الوجود فى العدم، أم كيف يثبت الحادث مع من له وصف القدم؟ »
والعظة تدور على أن لا حجاب بين العبد ومولاه إذ هو مظهر الكائنات جميعا وموجدها، وجميعها تشهد بوجوده، وإنه ليتجلى فيها جميعا. وقد ظهر لها وعرفته وسبّحته، وإن وجوده لأبدى أزلىّ، وإنه لواجب الوجود وحده دون سواه، وإنه لأقرب إلى الإنسان من كل شئ، أقرب إليه من حبل الوريد. ويا عجبا كيف يحجبه الفانى الحادث، وهو القديم الأزلى. وهو يسر فى العرض وروعة بيان وبلاغة. ويروى أن السلطان لاجين طلبه ليعظه، وسأله فى أثناء وعظه عن الشكر، فأجابه توا:
«الشكر على ثلاثة أقسام: «شكر باللسان، وشكر بالأركان، وشكر بالجنان. فشكر اللسان: التحدث بالنعمة، قال تعالى: {(وَأَمّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)}. وشكر الأركان: العمل بطاعة الله قال تعالى: {(اِعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً)}. وشكر الجنان: الاعتراف بأن الله وحده هو المنعم قال تعالى: {وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ)}. وسأله لاجين: ما الذى يصير به الشاكر شاكرا؟ فقال: إذا كان ذا علم فبالتبيين والإرشاد، وإذا كان ذا غنى فبالبذل والإيثار للعباد، وإذا كان ذا جاه فبإظهار العدل فيهم ودفع الأضرار والأنكاد». وبحق ما قاله الشعرانى من أن لكلامه حلاوة وجلالة.