والوحدة والمنزلة العليا بين الدول الغربية والعربية، وأعانته على ذلك حنكته فى السياسة وتدبير الحكم وخبرته الدقيقة فى اصطفاء الرجال واختيار القواد، كما أعانه خلق إسلامى عربى كريم من التسامح والعفو عند المقدرة والوفاء بالعهد لكل من استسلم من الثوار مع حسن المعاملة. وطالت مدة حكمه إلى سنة ٣٥٠ إذ استغرقت خمسين سنة وستة أشهر وثلاثة أيام، ويقال إنه عدّد أيام السرور التى صفت له فى هذه المدة الطويلة من حكمه، فكانت أربعة عشر يوما.
وخلفه بعهد منه ابنه الحكم المستنصر وكان فى السابعة والأربعين من عمره، وظلت الأندلس فى عهده موحدة وظلت للخلافة الأموية هناك هيبتها فى الداخل والخارج، وأخذت سفارات (١) ممالك النصارى فى الشمال وممالك أوربا تفد على قرطبة. وحاول البشكنس فى بنبلونة والجلالقة فى ليون الإغارة على بلاده فأوغلت جيوشه سنة ٣٥٢ فى أراضيهما، وأرغمتهما على العودة إلى إعلان ولائهما لقرطبة. وتابع سياسة أبيه فى إمداد الأدارسة بالمغرب الأقصى بالمال والسلاح، وأمدهم بالجنود ضد الفاطميين. وفى عهده عاد النورمان إلى الإغارة على شواطئ الأندلس الغربية فى المحيط والشرقية فى البحر المتوسط ونكل بهم الأسطول غربا وشرقا. وكان قد تعهده العلماء فى شبابه فشغف بالعلوم على اختلاف ألوانها واستحال جامع قرطبة لعهده إلى جامعة كبرى، وعنى عناية واسعة بمكتبته ومكتبة القصر. وكان أبوه توفى قبل إتمامه للزيادة فى الجامع فأتمها. ووقع فى خطأ كبير إذ أوصى بالحكم من بعده لابنه هشام الملقب بالمؤيد وكان لا يزال طفلا صغيرا فى الثانية عشرة من عمره حين وفاته سنة ٣٦٦ وبذلك عرّض الدولة لحكم الحجّاب الأوصياء وبالتالى لزلزلة لا بد أن تنزل بها سريعا.
وقام بأمر المؤيد فى أول خلافته جعفر المصحفى حاجب أبيه، وأشركت معه فيها «صبح» أمه محمد بن أبى عامر المعافرى صاحب خطة الشرطة والسكة بقرطبة وكان قد ازدلف إليها فى عهد الحكم بحسن الخدمة والقيام بمواقع الإرادة، وأخذ يعدّ سريعا لتفرده بالحجابة، فأغرى المصحفى بالصقالبة وأخذ ما فى أيديهم من الأموال العظيمة، واستعان بالبطل غالب صاحب مدينة سالم على جعفر فسجنه حتى هلك فى سجنه، ثم بجعفر بن على الأندلسى أمير الزاب بالمغرب الأوسط على غالب ثم بعبد الرحمن بن هاشم التجيبى على جعفر، ثم فتك بعبد الرحمن، وخلصت له الحجابة، وكان المؤيد متخلّفا شديد
(١) راجع تاريخ ابن خلدون ٤/ ١٤٥ وما بعدها وأزهار الرياض ٢/ ٣٨٨ وما بعدها.