هيبته على من جاوره من المسيحيين الإسبان فى الشمال وأذعنت له بالولاء مملكتا الجلالقة والقشتاليين واتخذتا منه الحكم المطاع فيما ينشأ بينهما من خلاف، وفزع إلى سدّته ملوكهما وأمراؤهما يلتمسون رضاه، وطار صيته فى أوربا، فوفدت منها سفارات كثيرة محملة بالهدايا: من إمبراطور بيزنطة والبابا فى روما وإمبراطور المملكة الجرمانية وهيو ملك الفرنجة وكونت برشلونة وماركيز توسكانيا وماركيز بروفنسا: قلدو الذى أصبح-فيما بعد-ملكا على إيطاليا. وكانت تعقد لهذه السفارات فى قصره حفلات فخمة (١). وكانت الدولة الفاطمية قد قامت فى القيروان قبيل حكمه بقليل وقضت على الدولة الرستمية فى المغرب الأوسط فأخذ يرسل المال والسلاح للأدارسة فى المغرب الأقصى حتى يستطيعوا الوقوف فى وجه الفاطميين واستولى على طنجة وسبتة، ورأى بثاقب فكره وقد أعلن عبيد الله المهدى الخلافة الفاطمية فى القيروان ولم يعد للعباسيين وجود فى المغرب أن يبادر إلى إعلان نفسه خليفة للمسلمين فى أواخر سنة ٣١٦ وتلقب بلقب أمير المؤمنين الناصر. وبذلك فصل الأندلس عن العالم العربى بعد أن ظلت طويلا تخضع لسلطان العباسيين الروحى قبله، إذ رأى هذا السلطان يتقلص فى إفريقيا، وبذلك تكاملت للأندلس شخصيتها السياسية، وأصدر فى ذلك منشورا قرئ على الناس فى مساجد الأندلس، وفيه أعلن تمسكه بنصرة أهل السنة والجماعة، مع استنكاره الشديد لعقيدة ابن مسرة المتوفى سنة ٣١٩ أى بعد منشوره بنحو سنتين، وكان قد مزج فى عقيدته بين مبادئ المعتزلة والمتفلسفة والصوفية.
وبلغ من احتفاء الناصر بأبهة الملك أن بنى لنفسه وحواشيه وجنده مدينة الزهراء على سفح جبل العروس المطل على قرطبة. وتأنق غاية التأنق فى قصره بها وأبهائه، ولم ينشأ له ولد إلا بنى له فيها قصرا مقرونا ببستان واختار له بعض الكفاة للقيام بشئونه وبعض المعلمين لتربيته وتعليمه. وعنى بالمسجد الجامع فى قرطبة، فأضاف إليه فى اتجاه الجنوب زيادة ضاعفت حجمه. وعنى بعمده وزخرفته وأقواسه وأقام به محرابا بديعا. ومن إنشاءاته الضخمة بناؤه مدينة سالم فى الثغر الأوسط بمواجهة مملكتى نبارّة والجلالقة فى الشمال لتكون مركزا للجيوش المجاهدة هناك. وبنى أيضا مدينة المريّة على البحر المتوسط لتكون قاعدة لأسطوله. ويعدّ عهده أعظم عهد مرّ بالأندلس، بما أتاح لها من الاستقرار
(١) انظر فى ذلك تاريخ ابن خلدون ٤/ ١٣٧، ١٤٢ وما بعدهما، وأزهار الرياض ٢/ ٢٥٨ و ٢/ ٢٧٢ وما بعدهما.