للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فالحمام يهيجه كما يهيجه النسيم الذى يهب من صوبها، وكما تهيجه الرسوم والأطلال، إذ يعبث الحنين بعقله وبقلبه، يقول فى معلقته:

حيّيت من طلل تقادم عهده ... أقوى وأقفر بعد أمّ الهيثم (١)

ولقد نزلت-فلا تظنّى غيره- ... منى بمنزلة المحبّ المكرم

ودائما نراه يعبر عن ظمأ شديد إلى رؤيتها، لا لغاية حسية، ولكن ليمتع طرفه بجمالها. ومن أهم ما يلاحظ عنده أنه يقدم لها فى معلقته وغير معلقته مغامراته الحربية، فمن أجلها يحارب ويستبسل فى القتال، ومن أجلها يذود عن قومه ويحمى حماهم، ومن أجلها يسوق كل مناقبه ومحامده، وكان حين يشتد القتال يلمع خيالها أمام عينيه فيندفع كالثور الهائج، يقول:

ولقد ذكرتك والرّماح نواهل ... منّى وبيض الهند تقطر من دمى

فوددت تقبيل السيوف لأنها ... لمعت كبارق ثغرك المتبسّم

فهو دائم الذكر لها فى وغى الحرب، حتى حين تعبث به سيوف أعدائه ورماحهم، إنه من أجلها يحارب ويخاطر ويغامر، فلا غرو أن يذكرها فى ساعات القتال الحرجة، فإذا هو يتحول إلى أسد ضار لا يعبس، بل يبتسم، لأنها تتراءى له من خلال بريق السيوف، فيؤمن بأنه منتصر.

وعلى هذا النحو تكاملت الفروسية عند عنترة، فلم تصبح فروسية حربية فحسب، بل أصبحت فروسية خلقية سامية، فيها الحب الطاهر العفيف الذى يجعل من المحبوبة مثلا أعلى والذى يرتفع صاحبه عن الغايات الجسدية الحسية إلى غايات روحية تنم عن صفاء النفس ونقاء القلب، وفيها التسامى عن الدنايا والنقائص الذى يملأ النفوس بالأنفة والإباء والعزة والكرامة والحس المرهف والشعور الدقيق. ويقال إنه قتل فى غارة له على بنى نبهان الطائيين بعد أن تقدمت به السن، إذ أصابه أحد رماتهم بسهم من سهامه، ويقال بل مات حتف أنفه (٢).


(١) أقوى واقفر: خلا ممن كان يسكنه.
(٢) انظر الأغانى ٨/ ٢٤٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>