للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فازورّ من وقع القنا بلبانه ... وشكا إلىّ بعبرة وتحمحم (١)

لو كان يدرى ما المحاورة اشتكى ... ولكان لو علم الكلام مكلّمى

وكأنما فرسه بضعة من نفسه. وبهذه الرقة والرحمة كان يعامل النساء سبيات وغير سبيات، فإذا سبى امرأة لم يقربها إلا بعد أداء صداقها إلى أهلها. وكما للسبية حرمتها كذلك لامرأة جاره، وخاصة إذا كانت زوجة صديق، فإنه يغض طرفه عنها ولا يتبعها قلبه وهواه، يقول (٢):

ما استمت أنثى نفسها فى موطن ... حتى أوفّى مهرها مولاها (٣)

أغشى فتاة الحىّ عند حليلها ... وإذا غزا فى الحرب لا أغشاها (٤)

وأغضّ طرفى ما بدت لى جارتى ... حتى يوارى جارتى مأواها

إنى امرؤ سمح الخليقة ماجد ... لا أتبع النفس اللّجوج هواها

وعنترة بهذا كله يصور لنا المروءة الجاهلية الكاملة، وهى مروءة طرزها حب عذرى عفيف لابنة عمه عبلة. وحقا إن هذا الحب إنما شاع فى بوادى نجد فى أثناء العصر الأموى، بسبب المعانى الروحية التى بثّها الإسلام فى نفوس العرب، وهو لم يشع فى الجاهلية، إنما ظهر عند بعض الأفراد من الفرسان مثل عنترة، فقد كان يتسامى لا فى خلقه فحسب، بل أيضا فى حبه، وقد جعله ذلك يستشعر غير قليل من الأسى والحزن حين رفض عمه يده، فلم يزوجه من ابنته. ومضى يحبها حبا عنيفا، أو قل حبا يائسا محروما فيه طهارة النفس ونقاؤها وفيه الفؤاد الملذع الذى يكظم حزنه فتفضحه عبراته، يقول (٥):

أفمن بكاء حمامة فى أيكة ... ذرفت دموعك فوق ظهر المحمل (٦)


(١) ازور: مال وانحرف. اللبان: الصدر. التحمحم. صهيل فيه شبه الأنين.
(٢) مختار الشعر الجاهلى ص ٤٠٩
(٣) استام المرأة: راودها عن نفسها. الموطن هنا: موطن القتال.
(٤) أغشى: أزور.
(٥) مختار الشعر الجاهلى ص ٣٨٧.
(٦) أيكة: شجرة. ذرفت: سالت. المحمل: علاقة السيف.

<<  <  ج: ص:  >  >>