للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والمحدثين عنايته بصاعد اللغوى واللغويين. وكان شديد الطموح فأمر أن يحيىّ بتحية الملوك، وقعد على سرير الملك. وطمح-كما مرّ بنا فى الفصل الماضى-إلى تنصيب نفسه خليفة، ورأى-تقربا للعامة-أن ينكّل بتلامذة ابن مسرة الصوفى المتفلسف المعتزلى (١)، ودفعه هذا التقرب إلى أن يأمر بإحراق كل ما كان فى مكتبة الحكم المستنصر بالقصر من كتب الفلسفة والفلك والتنجيم (٢) حتى يرضى العامة، غير أن ذلك لم يقف الحركة العلمية التى ازدهرت فى عصر عبد الرحمن الناصر وابنه الحكم فقد ظلت فى مدّها، إذ كانت أقوى من أن يعصف بها هذا الحادث. وسرعان ما تنشب بعد ابن أبى عامر الفتنة أو الفتن التى ظلت أكثر من عشرين عاما وانتهت بالقضاء على الدولة الأموية فى الأندلس سنة ٤٢٢ للهجرة، وكان من آثار هذه الفتن أن هاجر من قرطبة إلى مدن الأندلس المختلفة كثير من علمائها. وهاجر معهم إلى تلك المدن كثير من الكتب العلمية التى كانت مختزنة فى مكتبة الحكم وغيرها من مكتبات المساجد والمكتبات الخاصة.

وأعدّ ذلك من بعض الوجوه لأن تنشط الحركة العلمية فى المدن الكبرى التى تأسست فيها إمارات أمراء الطوائف أو ملوك الطوائف كما كانوا يسمونهم، إذ انتثر عقد الأندلس وأصبحت أندلسات أو قل إمارات كثيرة، ففى كل مدينة كبيرة فرد أو أسرة تحكمها، وتنافست هذه المدن، فكل مدينة تريد أن تتفوق على أخواتها فى العلم والفلسفة والأدب، وكل أمير لمدينة يريد أن يظفر بقصب السبق على نظرائه فى السلطان والشئون المادية والثقافية والفنية، وكأنما أعيدت فى هذه الحقبة سيرة المدن اليونانية القديمة: أثينا وإسبرطة وأخواتهما وما كان بينها من تنافس هيّأ لعصر من أزهى العصور اليونانية فى الفلسفة والفن والعلم والأدب، مما جعل حقبة أمراء الطوائف من أزهى الحقب فى تاريخ الأندلس، ومن يرجع إلى إشبيلية سيجد حاكميها المعتضد عباد وابنه المعتمد يتحولان بها إلى ما يشبه سوقا كبرى للشعر والشعراء، بينما يجد بنى الأفطس فى بطليوس بغربى الأندلس وقد صعدوا بالتأليف فى الثقافة والآداب إلى الأوج على نحو ما يصور ذلك المظفر بن الأفطس فى موسوعته التى سماها كتاب المظفرى فى الأدب والتاريخ، وكانت


(١) يدفعنا إلى اعتقاد ذلك أن قاضى الجماعة محمد ابن يبقى فى صدر دولة ابن أبى عامر هو الذى تولى محاكمة هؤلاء التلاميذ ولا بدّ أن كان ذلك بإيعاز منه. انظر النباهى فى تاريخ قضاة الأندلس ص ٧٨ وتاريخ الفكر الأندلسى لبالنثيا (الترجمة العربية) ص ٣٣٠.
(٢) طبقات الأمم لصاعد ص ١٠٣ ونسبة إحراق الكتب للخليفة هشام المؤيد خطأ وانظر البيان المغرب لابن عذارى ٢/ ٤٣٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>