للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فهو إنما يعوّل على هذا الصعلوك المثالى الذى يشركه فى غزواته والذى يتصف بسبقه إلى المحامد فى عشيرته، كما يتصف بجهارة صوته وزعامته بين الرفاق وبضمور جسمه وقوته وصلابته وجرأته فى اقتحام الليالى المظلمة الممطرة حتى إذا كانت الحرب كان المقدم فيها الذى يحمل لواءها، وإذا كانت السلم كان ذا رأى صائب يتردد فى مجالس العشيرة وأنديتها. ولا ينسى أن يضيف إلى هذه الخصال خصلة الكرم، ويجعلها حوارا بينه وبين شخص يعذله على كثرة كرمه وإفراطه فيه، حتى إنه لا يبقى على شئ لغده، ويزجره زجرا شديدا، يقول:

بل من لعذّالة خذّالة أشب ... حرّق باللوم جلدى أىّ تحراق (١)

يقول أهلكت مالا لو قنعت به ... من ثوب صدق ومن بزّ وأعلاق (٢)

عاذلتى إن بعض اللّوم معنفة ... وهل متاع وإن أبقيته باق (٣)

ولعل فى هذه الأبيات وما سبقها ما يدل فى وضوح على أن الصعلوك الذى كان يقطع الطريق فى الجاهلية كانت تنعكس عليه أحيانا صفات الفروسية وما بعثت لعصره من سمو فى الأخلاق. وما زال تأبط شرا يقوم بمغامراته حتى قتل فى إحدى غاراته بمنازل هذيل

أما الشّنفرى فكان من عشيرة الإواس (٤) بن الحجر الأزدية اليمنية، فهو قحطانى النسب، ويدل اسمه، ومعناه الغليظ الشفاه (٥)، أن دماء حبشية كانت تجرى فيه من قبل أمه، فهى أمة حبشية، وقد ورث عنها سوادها ولذلك عدّ فى أغربة العرب. ولا نراه ينشأ فى قبيلة الأزد، إنما ينشأ فى قبيلة فهم، ويضطرب الرواة فى سبب نزوله مع أمه وأخ له بها، وربما كان أقرب ما يروونه من ذلك أن قبيلته قتلت أباه، فتحولت أمه عنها إلى بنى فهم، ومما يرجح ذلك أننا نجده يخص بغزواته بنى سلامان الأزديين معلنا فى أشعاره أنه يقتصّ لنفسه منهم. ويقال


(١) العذالة: كثير العذل. الخذالة: كثير الخذلان لصاحبه. أشب: معترض. يريد من يعيننى على هذا العذالة.
(٢) ثوب صدق: ضد ثوب سوء. البز: الثياب والسلاح. الأعلاق: كرائم المال.
(٣) معنفة: عنف.
(٤) انظر فى ترجمة الشنفرى الأغانى (طبع الساسى) ٢١/ ٨٧ وخزانة الأدب ٢/ ١٤ وما بعدها وشرح المفضليات لابن الأنبارى ١٩٥ وما بعدها وذيل الأمالى ص ٢٠٨ وما بعدها، والشعراء الصعاليك ص ٣٢٨.
(٥) خزانة الأدب ٢/ ١٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>