والفكر والعلوم مع ما كان يعمها من فقدان الحرية والعدل الذى لا تطيب حياة أى شعب بدونهما بل إنها تصبح نكرا وشرا خالصين مع ما كان يجثم عليها من الظلم والقهر البشع والبؤس التعس.
وكأنما كتب للأندلس-حينئذ-أن تتخلص من كل هذه الخطوب المدلهمة بنزول العرب فيها حاملين إلى أهلها تعاليم دينهم السمح فى معاملة أهل الكتاب من النصارى واليهود بمنتهى الرفق، بحيث تكفل لهم حريتهم الدينية فى عباداتهم وما يتخذون لها من كنائس وبيوت وشعائر دون أى تدخل، وبحيث يرفع عنهم ثقل الضرائب الفادحة التى فرضها عليهم القوط وأحالوا بها حياتهم إلى صور بغيضة من البؤس والظلم والهوان.
وكانت هذه المعاملة الإسلامية الكريمة التى حررت أهل الأندلس من جور القوط بعد أن كانوا مسترقين لهم استرقاقا قبيحا، والتى ملأت الأندلس بالعدل الذى يعطى لصاحب الحق حقه دون أى حيف، والذى يسوى بين الناس فى مواجهة الحياة بقسطاس مستقيم، سببا قويا فى أن يعتنق كثيرون من مسيحيىّ الأندلس الإسلام لما يرون فيه من مثل إنسانية رفيعة، ومن دين قويم لا تشوبه أى شائبة من فكرة التثليث المعقدة فى الدين المسيحى، مع ما يتيح لمعتنقه من سعادة فى دنياه وآخرته، وأيضا لأن من كان يعتنق الدين الحنيف منهم يصبح له جميع حقوق العربى الفاتح لدياره، فله كل ما للمسلمين الفاتحين من هذه الحقوق. وهيأ ذلك سريعا فى الأندلس لأن تدخل أفواج متلاحقة فى الإسلام وكانوا يسمون المسالمة، وسمّى أبناؤهم باسم المولدين. وينبغى أن نذكر أنه لم يحدث فى تاريخ العرب بالأندلس أن أكره أحد على الإسلام، فقد كانت الحرية الدينية مكفولة للنصارى واليهود إلى أقصى حد، وكان من أسلم من أهل الكتاب لا بد أن يعلن ذلك أمام قاض من قضاة المسلمين فى قرطبة وغيرها من البلدان، وأن يسجل إعلانه لذلك فى وثيقة يشهد عليها شاهدين، قائلا فيها إنه يعتنق الإسلام بعد أن وقف على شريعته «طائعا آمنا، غير فارّ من شئ ولا مكره، وأنه يحمد الله على أن هداه للإسلام شاكرا له نعمته على هدايته له»(١).
وطبيعى أن يقبل من أسلم من أهل الأندلس على تعلم العربية حتى يحسنوا أداء شعائر الإسلام وتلاوة كتابه التى تعدّ جزء لا يتجزأ من اعتناقه، وبالمثل دفعوا أبناءهم إلى هذا التعلم، ومعنى ذلك أن شطرا كبيرا من أهل الأندلس تعربوا تعربا كاملا: دينا ولغة،
(١) كتاب الوثائق والسجلات لابن العطار (طبع مدريد) ص ٤٠٥ وما بعدها.