للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد بقى وراءهم شطر ظل على مسيحيته، وكان يتخذ لهجة لاتينية عامية أو رومانثية لغة فى تخاطبه اليومى، غير أنه شعر سريعا بما ذكرناه آنفا من أنها لغة مجدبة فقيرة، وخاصة حين يقرنها إلى العربية، إذ ليس لها تراث أدبى كتراث العربية، وأيضا ليس لها مثلها تراث ثقافى ولا حضارى، تستطيع أن تثبت به أمامها، فضلا عما لأهل العربية فى البلاد من عزة وقوة وسلطان وغلبة، ومعروف أن المغلوب دائما يحاول أن يحاكى الغالب، فما بالنا إذا ظل هذا الغالب يستعلى على مسيحيىّ الأندلس ويهودها ثقافيا وأدبيا وحضاريا لا قرنا ولا قرنين بل قرونا متعاقبة من القرن الثامن الميلادى حتى نهاية القرن الخامس عشر، وهم طوال هذه الحقب كانوا يقفون مشدوهين أمام هذا الفكر العربى الباهر فى العلم والأدب والفلسفة، ويصور ذلك «ترند» فى مقاله بتراث الإسلام قائلا:

«كانت قرطبة فى القرن العاشر الميلادى أكثر المدن الأوربية حضارة، وكانت فى ذلك الحين مثار إعجاب العالم، وبلغ من ارتفاع شأنها أن حكام ليون ونبارّه وبرشلونه كانوا يقصدون إليها كلما مسّتهم الحاجة إلى جراح أو مهندس معمارى أو مطرب كبير» (١). ومنذ أواسط القرن الحادى عشر تتحول طليطلة وبعض المدن الأندلسية التى استولت عليها الإمارات المسيحية الشمالية إلى مؤسسات (٢) ترجمة ضخمة لكل ما هو عربى من علم وفلسفة وأدب، ويؤمّ طليطلة طلاب العلم من مختلف البلاد الأوربية: الفرنسية والإيطالية والألمانية والإنجليزية فضلا عن البلاد الإسبانية يحمل كل منهم بمقدار طاقته وجهده أقباسا عربية إلى مدنه وبلدانه، وظل ذلك حتى القرن الخامس عشر للميلاد، وكانت هذه الأقباس من أكبر العوامل فى نهضة أوربا وخروجها من ظلام العصور الوسطى إلى أضواء العصر الحديث. وإنما قلت ذلك كله لأتخذ منه الدليل الساطع على أن من بقى من المسيحيين فى الأندلس على دينه تعرب-مثل زميله الذى اعتنق الدين الحنيف-بحكم ما كان للعربية والعرب من تفوق حضارى وثقافى، وأيضا بحكم ما كان لهم من شعر وأدب رفيع قصص وغير قصص، بينما كانت اللهجة الرومانسية الدارجة فى التخاطب «اليومى» للمسيحيين فى الأندلس وفى شمال إيبيريا فقيرة فقرا شديدا، بحيث لا نستطيع أن نجد مبررا كافيا لما ذهب إليه المستشرق الإسبانى ريبيرا فى نظريته (٣) الجديدة المفضية إلى أن عرب الأندلس كانوا يستخدمون العربية الفصيحة لغة رسمية يتعلمونها فى


(١) تراث الإسلام (طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر) ص ١٧.
(٢) انظر فى ذلك تاريخ الفكر الأندلسى لبانثيا ص ٥٣٦ وما بعدها وفى مواضع مختلفة.
(٣) راجع هذه النظرية فى بالنثيا ص ١٤٢ وما بعدها.

<<  <  ج: ص:  >  >>